موجة جديدة من انشقاقات الإسلاميين

خالد الشافعي

عند تأمُّل تاريخ الجماعات الإسلامية نجد هناك منعطفين خطيرين تواجههما الجماعات في بداية نشأتها ثم عند تراجعها ـ كما هو الحال الآن ..



عند تأمُّل تاريخ الجماعات الإسلامية نجد هناك منعطفين خطيرين تواجههما الجماعات في بداية نشأتها ثم عند تراجعها ـ كما هو الحال الآن .


في المنعطف الأول: عادةً ما تكون الانشقاقات أو المراجعات في اتجاه مزيد من التمسك بالجذور والأصول، وللدرجة التي تصل أحياناً إلى التطرف والتكفير، ولكن بعد عقود وعندما تمر الجماعات بمراحل من الضغوط والمواجهات والمحن، عادة ما تكون الانشقاقات أو التراجعات في اتجاه مزيد من التخفيف أو التخلص من عبء بعض الثوابت، وأقرب مثال على ذلك (جماعة الإخوان المسلمين) ففي مصر، في مرحلة الستينيات كانت أبرز الانشقاقات في اتجاه التكفير، وتمثلت في (جماعة التكفير والهجرة)
ولكن في السنوات الأخيرة كانت أبرز الانشقاقات متمثلة في (حزب الوسط) تحت التأسيس، والذي يخطو بقوة في اتجاه التوافق مع التيارات العلمانية والمدنية .


هذه الحقيقة التاريخية تعطينا نتائج هامة، لعل من أبرزها:

أن أهم آلية لاحتواء السلفيين ومن ثم السلفية في الوقت الحالي هي في ممارسة مزيد من الضغوط والحصار عليهم، وأخطر وسائل الضغط ـ وعلى غير ما يتوقع الكثيرون ـ هو أن يُفتح المجال أكثر للرموز السلفية كي يخرجوا من ميدانهم الرئيس، ويبرزوا للعلن وللجماهير من خلال الإعلام والسياسة وفي ميادين لا يملكون أدواتها؛ حيث يواجهون عالماً تغيرت مفاهيمه وثوابته وأصبحت له قواعده الخاصة.

وعندها سيجد السلفيون المطروحون للعلن أنه لا بد من تقديم جوازات المرور المتمثلة في التخلص من عبء بعض الثوابت، ولا بأس من طمأنة الغيورين ودغدغة مشاعرهم بأنه لا يوجد تغير أو تراجع، ولكن كل ما في الأمر أنه لا بد من التعامل مع الإعلام بقدر من المداراة والمواربة.

وعلى الفور فإن خصوم السلفيين يضعون أيديهم في الشق المتسع في قناعات الرموز المتراجعة ليزيدوه اتساعاً وتراجعاً، وليتراكم كل ذلك في خانة المنهج السلفي، لتصبح مهمة الدعوة السلفية، كما يُبرزها هؤلاء، ليست في ضبط مؤشر الانحرافات في المجتمع لكي يقترب أكثر من الإسلام، ولكن في ضبط مؤشر الالتزام لكي يقترب أكثر من المجتمع تحت شعار تصحيح المفاهيم.


الكلام السابق هو كلام نقلته ببعض التصرف من مقال مكتوب منذ سنوات بمجلة البيان للكاتب السلفي أحمد فهمي ، وهذا المقال يقفز إلى ذهني فوراً ودائماً كلما واجه السلفيين محنة آو مأزقاً ، مقال : عفوا ممنوع دخول السلفية والسلفيين ، هو مقال لا احسب أن مهتماً بشأن الحركات الإسلامية يمكن أن يتجاوزه ، المقال يكتسب بمرور الزمن مصداقية أشد وواقعية أكبر ، وأعجب ما في الموضوع أن الكاتب اعتمد في مادته على تقارير مؤسسة راند الأمريكية، والتي تعد مرجعية أصيلة لصانع القرار الأمريكي في التعامل مع الصحوة.


وكما رأيت عزيزي القارئ وسترى أكثر لو قرأت المقال المُشار إليه كاملاً ، سترى وتكتشف أن كل ما خطط له الغرب في التعامل مع الصحوة وقع بحذافيره، وقد تمكن من تحويل الكثير من الفصائل الإسلامية والرموز الكبيرة إلى عرائس جميلة في متاحف الشمع تقدم إسلاماً لا يقلق الغرب، وستكتشف أيضاً أن الانشقاقات هي أحد خصائص الحركات الإسلامية، وهي نوعان: انشقاقات نحو التحرر من دائرة النصوص والحلال والحرام ليس برفض مرجعيتها ولا حاكميتها ولكن بإعادة تأويلها، والنوع الثاني من الانشقاقات هي انشقاقات نحو مزيد من الالتزام الحرفي بالنصوص.


الحاصل أنه وقبل الثورة بخمس سنوات تقريباً تم فتح باب الفضائيات أمام الرموز السلفية الكبيرة مع منع سلفية الإسكندرية، والسلفية الجهادية في القاهرة ، وكان المرء يتعجب من سبب ترك هذه الفضائيات مفتوحة أمام هؤلاء الدعاة رغم حالة التدين الرهيبة التي حصلت، ثم تبين مع مرور الوقت وكما قال لي واحد من المغمورين لكنه عندي من الراسخين في العلم: قال لي أن الفضائيات الإسلامية تقدم إسلاماً مشوهاً ومبتوراً ومنقوصاً ومدجناً، الفضائيات الإسلامية تظهر المتمسكين بالإسلام الكامل في صورة المتطرفين ، قال لي لماذا لا يجرؤ أحدهم علي أن يتكلم عن الرئيس ولا الحريات ولا الاعتقالات ولا أسيرات الكنيسة ، قال لي حين يكون أيمن نور في السجن ونحن في الخارج فهذه علامة على مرض عضال، وحين يمتدح النظام والأمن خطابك ووسطيتك فهذه إشارة أنك على الطريق الخطأ.

ثم كانت الثورة ونزلت السلفية العلمية والجهادية بكل ثقلها إلي عالم السياسة بدون أدنى استعداد أو مؤهلات فحدث ما توقعه كاتب المقال الذي أشرت إليه:

(يُفتح المجال أكثر للرموز السلفية كي يخرجوا من ميدانهم الرئيس، ويبرزوا للعلن وللجماهير من خلال الإعلام وفي ميادين لا يملكون أدواتها؛ حيث يواجهون عالماً تغيرت مفاهيمه وثوابته وأصبحت له قواعده الخاصة، وعندها سيجد السلفيون المطروحون للعلن أنه لا بد من تقديم جوازات المرور المتمثلة في التخلص من عبء بعض الثوابت، ولا بأس من طمأنة الغيورين ودغدغة مشاعرهم بأنه لا يوجد تغير أو تراجع، ولكن كل ما في الأمر أنه لا بد من التعامل مع الإعلام بقدر من المداراة والمواربة).


الآن فإن الحركة الإسلامية في مصر تشهد مرحلة جديدة من الانشقاقات، شباب الإخوان يغلي بسبب ما يراه من ديكتاتورية النخبة وانفرادها بصناعة القرار وتعنتها ولا مبالاتها بمطالب القاعدة، وجاءت مسألة تعنت الجماعة في موضوع أبو الفتوح ليصب مزيداً من الزيت علي حالة الغضب والسخط، أما السلفية فأيضاً تشهد حالة غير مسبوقة من السخط على اختيارات التيار السلفي السياسي بشقيه الدعوي والحزبي، وتزداد الفجوة ويزداد السخط مع كل تنازل يقوم به الحزب نتيجة طبيعة العمل السياسي، فبينما يجد الحزب السلفي نفسه يعيش عالماً جديداً وواقعاً مختلفاً يتغير بشكل متلاحق ومفاجئ وهو ما يضطر الحزب إلى تقديم مزيد من التنازلات، بينما الشباب يصرخ أنه لم ينتخب الحزب من أجل أن يتنازل بل من أجل الثبات على المبادئ، يصرخ الشباب السلفي: دخلنا السياسة ليكون ثباتنا في مقابل تنازلات الإخوان، ولو كنا نعلم أننا سنتنازل لتركنا الإخوان وتفرغنا للدعوة والعلوم الشرعية .


الحاصل أنني أرى أن انشقاقاً يتشكل داخل الصف السلفي وسيسفر عن كتلتين كبيرتين، كتلة السلفية السياسية يمثلها حزب النور و مرجعياته ومن سيتبعهم من الأتباع وهؤلاء سيتحولون إلى صورة قريبة جداً من الإخوان ولن يتمكنوا من مقاومة ذلك مهما فعلوا وإن أنكروا ذلك، وكتلة ستزداد تمسكاً بالمنهج بل ربما تزاد تشدداً فيه كرد فعلي على ما يعقدونه خروجاً من الحزب على المنهج.

مشكلة الكتلة الثانية أنها ستعاني من غياب القيادة، لأن كل الرموز السلفية هي رموز في خريف العمر وهي رموز محافظة بامتياز.

وليست معنية بالتغيير، في نفس الوقت فإن طبيعة العمل الديني أن عالم الشباب محقور وبالتالي فإن شباب الكتلة الثانية لن يقبل بسهولة أن يخضع لقيادة شابة من داخله وهذه أحد أكبر التحديات التي ستؤخر تحول هذه الكتلة إلى كيان.


ملاحظة: حديثي عن تنازلات حزب النور لا يعني أن هذه التنازلات خطأ بل ربما يكون له رخصة شرعية في ذلك ، وفي رأيي أنه لو كانت ثمة خطأ فإنه في النزول إلى وحل السياسة بداية، وربما كان الأفضل هو ما ذكره المهندس حسن الرشيدي وهو سلفي مهتم بالشأن السياسي حيث صرح عقب الثورة مباشرة بأن الأفضل للتيار السلفي أن يتحول إلى جماعة ضغط.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام