بعد هدوء عاصفة (تطبيع) د. جمعة

يعاني كثير من العرب حقيقة من قصر النفس في تبنيهم لقضية ما، أو اعتراضهم على سياسة ما، والسلوك هذا هو في رتابته مدعاة لتجاوز كل صرخات الاحتجاج لدى خصومهم...


يعاني كثير من العرب حقيقة من قصر النفس في تبنيهم لقضية ما، أو اعتراضهم على سياسة ما، والسلوك هذا هو في رتابته مدعاة لتجاوز كل صرخات الاحتجاج لدى خصومهم، ودافع نحو الاستخفاف بكل معارضاتهم ما دامت لا تقوى على الاستمرار إلا لفترات وجيزة.

والعالمون بهذه السلبية لدينا من واضعي السياسات لا يؤخذون بصخب الموجة الأولى من المعارضة، ولا ترعبهم المظاهرات ولا الاستجوابات البرلمانية ولا البيانات الحنجورية ما دامت كلها في النهاية مجرد بالونة تظل تكبر سريعًا ثم سرعان ما تتمزق ولا يبقى من أثرها شيء.


والبادي أن زيارة مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة للأقصى التي أحدثت معارضة شديدة في مصر وصلت حد التخوين والاستهزاء بالرجل في بعض وسائل الإعلام، وفي تصريحات ساسة ومتدينين، وفجرت مظاهرات ووقفات، واستدعت تنديدًا من مجلس الشعب المصري وطلبًا منه للمفتي بالاعتذار والاستقالة، وصمتًا من الأزهر عن التنديد مع إشارة دبلوماسية بأن الزيارة قد مرت من خلف ظهر المشيخة، تلك الزيارة وتوابعها لم تغير في النهاية من حقيقة واضحة وضوح الشمس، وهي أن مفتي الديار المصرية قد خالف قرارات جميع الفعاليات الدينية ـ حتى غير المسلمة منها في مصر ـ وزار الأقصى المبارك بتأشيرة "إسرائيلية" وبحماية أيضًا كذلك، وأن الموجة اللاحقة من الاحتجاجات مع فتورها لن تحول دون تكرار الزيارة المشينةـ في حماية الاحتلال من غيره، وسوف تمثل سابقة لها ما بعدها، وحجة مدعاة يمكن أن يسوقها كل من يعتبر د.علي جمعة "مرجعية دينية" يمكن الاستشهاد بها أو تقليدها متحصنًا بما كان يعرف لهذا المنصب من جلال العلماء، وقوة علمهم على مر العصور الماضية.


لقد اختار من خطط لهذا الاختراق في جدار المقاطعة لمثل هذه الزيارات توقيتًا ملائمًا تمامًا لتنفيذ هذه المهمة؛ إذ إنه وبرغم استحواذ "الإسلاميين" في مصر على الأكثرية من مجلسي الشعب والشورى، وتوافر بعض وسائل الإعلام لهم، وحرية الحركة الممنوحة لهم حتى الآن للاحتجاجات، إلا أنهم يبقون عاجزين عن ترقية احتجاجاتهم وبلورتها في إجراء بعزل المفتي عن منصبه، لجملة من الأسباب، لعل من أبرزها دقة الوضع الداخلي، والاتهامات الجاهزة لهم ولمجلسيهم بأنهم سيظلون بعيدين عن أحلام المصريين وتحقيق أهداف "الثورة"، وأنهم دومًا مشغولون بقضايا "هامشية" عوضًا عن إدارة معركة "الثورة" مع "الفلول"، وبقايا نظام مبارك المتنفذة، كما أن الفصيل الإسلامي الأكبر والأكثر تنظيمًا، وهو جماعة الإخوان المسلمين، وجناحها السياسي، حزب الحرية والعدالة، المعروف دومًا بالاهتمام بالقضية الفلسطينية إلى حد الاتهام من الخصوم بتقديم هموم الخارج على الداخل المصري، محشور في زاوية ضيقة، نجم عنها حزمة من القرارات والإجراءات الراديكالية المصادمة للمجلس العسكري كنوع من الهروب إلى الأمام، بعد أن انتبهت الجماعة إلى كون النظام الحاكم فعال في تهميشها والبقاء في الحكم بنحو أو بآخر، وهو ما اضطرها إلى عدم إيلاء موضوع د.جمعة مساحة كبيرة من الاهتمام.


والخلاصة إذًا، أننا بحاجة دائمًا إلى إنضاج طريقة يمكن من خلالها إبقاء بعض القضايا حية، ومناوأة إماتتها على هذا النحو المريب، ومن أنجع ما يقدم في هذا الخصوص هو بناء الاستراتيجيات القائمة على الفعل، لا رد الفعل، وانتظار الملمات للصراخ في وجهها، وديمومة تقديم المبادرات الحائلة دون تدهور الأوضاع، لأن المصلحين إن انتظروا الأفعال من غيرهم فإنهم سيظلون أبدًا يتقهقرون.


6/6/1433 هـ
 
<