هيجليج: معركة ترسيم الحدود؟!

طلعت رميح

تبدو المعارك العسكرية للسيطرة على منطقة هيجليج واحدة من أهم الأحداث التي سترسم معالم الوضع الاستراتيجي والكلي للسودان، ما بعد الانفصال أو ما بعد المرحلة الأولى من تفكيك هذا البلد، ولن تقتصر تأثيراتها على رسم العلاقة الحالية والمستقبلية بين السودان الشمالي والسودان الجنوبي.


تبدو المعارك العسكرية للسيطرة على منطقة هيجليج واحدة من أهم الأحداث التي سترسم معالم الوضع الاستراتيجي والكلي للسودان، ما بعد الانفصال أو ما بعد المرحلة الأولى من تفكيك هذا البلد، ولن تقتصر تأثيراتها على رسم العلاقة الحالية والمستقبلية بين السودان الشمالي والسودان الجنوبي.

لقد شَنَّت قوات الحركة الشعبية المُسيطرة على الجنوب اعتداءها، وأنجزت احتلالها لهيجليج رغم أنها منطقة غير متنازع عليها مع السودان الشمالي، بل هي منطقة مستقر على ملكيتها واستقرارها في داخل الجزء الشمالي أو ضمن أرض السودان الشمالي بلغة اليوم، ومن بعد أعلن السودان الشمالي التعبئة العامة ووصل حافة الحرب مع الجنوب، وقام الجيش السوداني بالهجوم وتحرير المنطقة وطرد قوات الحركة الشعبية، وبعد تحريرها أصدر إعلانًا بالقبض على خبراء أجانب وَفدُوا مع قوات الحركة الشعبية، متخصصين فى مجال التخريب التقني الممنهج للمنشآت البترولية، بما ألقى ظلالاً كثيفة حول طبيعة الهجوم الجنوبي على هيجليج وعلى القوى المساندة، وربما التي خططت لهذا الهجوم.

جاءت مباغتة الهجوم العسكري الجنوبي من حدوثه، في وقت كان يجري التفاوض فيه بين وفدين للشمال والجنوب على الأراضي الإثيوبية، كما جرى الهجوم في وقت كانت تجري فيه تحضيرات لزيارة رئيس الجنوب (سلفاكير) للخرطوم، لإجراء مفاوضات مع الرئيس (البشير) بهدف إحداث دفعة للمفاوضات المباشرة الجارية فى إثيوبيا، وكذا جرى الهجوم في وقت بدى للجميع أن الأمور تسير نحو تهدئة عامة، بعد تدخل المبعوث الإفريقي وبدء حلحلة بعض القضايا الخلافية فى المفاوضات.

وكان اللافت أن حَمَلتِ التصريحات التي صدرت عن قيادة الجنوب عقب القيام باحتلال هيجليج، دلالات مهمة وواضحة تكشف أبعاد خطيرة لهذا الهجوم. لقد أعلن الجنوب أن منطقة هيجليج تتبع أرض الجنوب لا الشمال، ولأن ما جرى ليس إلا استعادة لأرض مستولًى عليها من قبل الشمال، كما صدر تصريح آخر يقول: "أن القوات الجنوبية لن تنسحب من هيجليج، إلا إذا انسحبت قوات الشمال من منطقة أيبى المتنازع عليها على الحدود بين البلدين". وهو ما أكَّدَ توصيفا بأن عملية احتلال هيجليج جاءت فى إطار المساومة على أيبى بصفة مباشرة، وأن هذا العدوان العسكري جاء على خلفية الضغط التفاوضي لأجل حل القضايا المعلقة بين الطرفين وبشكل خاص قضية ترسيم الحدود.

فهل الأمر كذلك؟ ولم نقول أن ما جرى سيرسمُ مستقبل العلاقات إستراتيجيًا وكليًا، ولن يقتصر تأثيره على حل قضية الحدود وعلى المفاوضات الجارية حاليًا.

القضايا العالقة:
واقع الحال أن الحركة الشعبية شكلت دولةً في إقليم الجنوب، وصار معترفًا بها دوليا فى نهاية مطاف مرحلة انتقالية وافق عليها الطرفان في اتفاقيات وبرتوكولات نيفاشا، غير أن السنوات الانتقالية الخمس التي اتُّفِقَ عليها في البروتوكولات لم يُنجز خلالها صياغة علاقة انفصال حقيقية وناجحة، تؤسس لعلاقة ثابتة ومستقرة بين الشمال والجنوب، إلا على صعيد انسحاب القوات الشمالية من الجنوب وإقرار الشمال للجنوب بحقوقه كدولة.

لقد اصطف الجنوب خلال تلك الفترة الانتقالية إلى جانب أيبى، وكل قوة خارجية أو داخلية كانت تعمل لإسقاط الحكم فى الشمال، الذي كان يسارع الخطى للأسف لإنجاز فصل الجنوب هروبًا للأمام من حالة الحصار الإستراتيجي التي تعرض لها، اقتصاديًا وسياسيًا وداخليًا، عبر تمرد دارفور وضغط القوى السياسية الشمالية وبسبب تقديم الرئيس البشير للَّنيْلِ منه أمام المحكمة الجنائية الدولية، إلخ...

وخلال تلك المرحلة الانتقالية لم يترك الجنوب للشمال فرصة حقيقية للتفاوض حول قضايا ما بعد الانفصال السياسي والجغرافي، إذ اعتمدت قيادة الجنوب إستراتيجية تقوم على تعليق كل القضايا وعدم حسم أيٍّا منها، إلى حين أن تكتسب مشروعية دولية عبر حالة الانفصال، ولكي يكون لها جيشها المستقل لتحقيق مكاسب أعلى خلال التفاوض اللاحق ما بعد التقسيم أو بعد أن تحصل على الدولة، ولذا ظلت قضايا الحل النهائي -باستعارة التعبير من المفاوضات الفلسطينية الصهيونية- مُعلقةً، لكي يتمكن الجنوب من بعد من إثارتَها في الوقت الذي يراه أكثر مواتاةً له على صعيد إستراتيجية تحقيق أهدافه.

لقد كانت وما تزال قضية الحدود عالقة بين الطرفين، والآن يُثير الجنوب قضية الحدود وِفقًا لمرجعيات ما فعله المستعمر البريطاني بعد إقراره وتنفيذه قانون المناطق المقفلة في عام 1920، الجنوب يُبادل حدود عام 1956 بحدود عام 1925، ليختار أيها الأفضل له أو لتعطيل المفاوضات والقفز على الاتفاقيات التي حددت أسس التفاوض على تلك الحدود في اتفاقيات نيفاشا.

وفي التفاوض حول قضية نصيب الجنوب في ديون الدولة التي انفصل عنها، يمترس الجنوبيون عند عدم تحملهم أي نصيب في تلك الديون، وهو ما كان يعني بالنسبة للشمال فى حال إقراره عدم القدرة على التسديد والتحول إلى دولة مدينة على نحو ينهي قدرتها على استمرار البقاء تقريبًا، إذ الجنوب يكون قد حصل على مصادر الثروة النفطية من جهة وأفلت من تسديد الديون من جهة أخرى، وترك الشمال متحملًا دين الجنوب وبلا مصدر لسداد تلك الديون.

وهكذا كان الحال في قضية الجنسية وعدم عودة الجنوبيين، ومن يتحمل كلفة عودتهم، كما ظلت قضية رسوم عبور نفط الجنوب من أراضي الشمال ذاهبًا للتصدير إلى الخارج، قضية معلقة هي الأخرى.

والأهم في كل ذلك أن أحداث هيجليج لَمْ تكشف: لِمَ ماطلت قيادة الحركة الشعبية في الوصول إلى حل لكل تلك القضايا خلال السنوات الخمس التي مضت؟ أو أنها لمْ تكشف فقط أن إستراتيجية قيادة الجنوب رأت الانتظار إلى ما بعد الانفصال لتصبح في وضع أقوى، بل هي طرحت بُعدًا جديدًا في تلك الإستراتيجية، يقوم على فكرة التحول إلى حالة الهجوم والضغط العسكري أو الاعتماد على استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف إستراتيجية أبعد من فكرة ترسيم الحدود والثروة النفطية والجنسية وغيرها..

وأن هذه المعركة كشفت عن الإستراتيجية الحقيقية للجنوب، والتي تقوم على ممارسة الضغط والفعل العسكري لتفكيك السودان الشمالي وإنهاء وجوده، وِفقًا لتلك التصورات التي كان أعلنها جون جارانج زعيم حركة التمرد في الجنوب، وهي إنهاء الهوية العربية الإسلامية للسودان كله! لا فصل الجنوب فقط أيًّا كانت حدوده والمناطق الجغرافية وطبيعة الثروة النفطية التي حصل عليها.

ما قبل هيجليج:
لقد سجل هجوم جيش الجنوب على الشمال، تحولًا إستراتيجيًا يجري لأول مرة في تاريخ الصراع، كان الصراع يجري تاريخيا على أساس وجود جيش السودان في كل أرجاء السودان، وفي وضع المطاردة لقوات الحركة الشعبية في الجنوب مثل ما هو حادث في دارفور حاليًا، وكان جيش الحركة يمارس بالمقابل لعبة الكرّ والفرّ الإستراتيجي مع هذا الجيش، وحين تم الاتفاق على الانفصال أو التقسيم، كان مضمون الرؤية للوضع الجديد أن يتوقف جيش الشمال عن الانتشار والمطاردة لقوات الحركة بالمقابل في أرض الجنوب، غير أن الهجوم الأخير سجل تحولًا تقوم فيه قوات الجنوب على الهجوم على أرض الشمال، واحتلال جزء من أرض الشمال، وهو ما يعني حدوث تغيير هو الأخطر منذ بداية أزمة الجنوب في عام 1955.

لا يمكن فهم أبعاد معركة هيجليج بالنظر إليها في ذاتها، كمعركة عسكرية أو كنمط من أنماط تسوية ملفات الخلافات الحدودية، بل من خلال فهم دور الحركة الشعبية عسكرياً وإستراتيجيًا في تفكك دولة الشمال، وإنهاء وجود هذا الكيان العربي.

تلك المعركة لا يمكن فهمها إلا في إطار فهم أسباب استمرار وجود لوائين عسكريين من قوات الجنوب على أرض الشمال، يعملان ضمن ما سُمِّيَ بـ(فرع الشمال في الحركة الشعبية) وهما يعملان بشكل خاص فى النيل الأزرق وجنوب كردفان، أي أن الحركة الشعبية ما يزال لها قوات تقاتل بالتحالف مع أشكال تمرد أخرى ضد دولة الشمال، كما لا يمكن فهم معركة هيجليج دون إدراك خطورة ما أعلن عن وجود قادة حركات التمرد من مختلف أرجاء السودان على أرض الجنوب، وتوفير كل الحماية والتمويل والتدريب والتسليح لها.

وكذا لا يمكن فهم معركة هيجليج دون إدراك مغزى عرض الكيان الصهيوني على الأمم المتحدة توفير جنود صهاينة جاهزين للمشاركة في حماية اتفاقات وحدود الشمال مع الجنوب، أو للتواجد ضمن إطار قوات الأمم المتحدة في المناطق المُتنازع عليها، وكذا لا بد من إدراك مغزى أن كانت أول زيارة لرئيس الجنوب إلى تل أبيب وأن افتتاح سفارة الجنوب لدى الكيان الصهيوني، لم يجرِ في تل أبيب بل في القدس -وهو ما لم تفعله أمريكا نفسها حتى الآن- وأن تسليح وتدريب جيش الجنوب يجري إسرائيليًا وأمريكيًا، إلخ...

المعنى الإستراتيجي الانقلابي هنا: أن جيش الجنوب الذي حدَّدَ إستراتيجية هجوميةً ضد الشمال واحتل جزءًا من أرضه، وتأتي خطورته مرتبطة بتنامي علاقات الجنوب مع دول معادية للشمال، ومرتبطة بإستراتيجيات تلك الدول التي كانت هي صاحبة الدور الأساس في دعم حركة التمرد في الجنوب، والتي قامت بالضغط على السودان وإحاطته إستراتيجيًا وتهديده عسكريًاً حتى رضخ لخطة فصل الجنوب، وهو ما يعني أننا أمام إستراتيجية متكاملة مترابطة نامية أو متصاعدة باتجاه تفكيك السودان ولسنا أمام معركة ترسيم حدود.

ما بعد هيجليج:
معركة احتلال هيجليج سجلت نمطًا جديدًا في العلاقة الإستراتيجية بين الشمال والجنوب، تنعكس فيها عوامل القوة والقدرة والرؤية، وتتحول فيها دولة الجنوب إلى نقطة ارتكاز إستراتيجي في استمرار المخططات المعادية للسودان، وهي إن كانت قد بدت نقطة ضغط لأجل تحقيق مصالح حدودية، أو للضغط على عصب الاقتصاد السوداني لإضعاف الحكم أمام الجنوب لكي يسلم بطلبات الجنوب..

لكن الأساس الذي وضع هنا: أنَّ ثمة مرحلةً جديدةً من الصراع لأجل تفكيك السودان، وأن المعركة كانت إعلانًا بإطلاق قاعدة لوجستية هي دولة جنوب السودان لخدمة الخطط الغربية ضد السودان، أو كانت إعلانًا بتحول الحركة الشعبية من خدمة المخططات الغربية ضد السودان، من خلال إستراتيجية الإنهاك على أرض الجنوب إلى حركة مرتكزة إلى أرض ومشروعية دولة، ومن مجموعات من العصابات إلى جيش نظامي متطور متصاعد القوة، وهو ما يعني قوة واندفاع للمخططات المعادية للسودان.

لقد صدرت تقديرات سودانية بأنَّ الهجوم الذي شنته قوات جنوب السودان، جاء مدعومًا من دول في الإقليم خاصة أوغندا، ومن دول أخرى خارج الإقليم لم تحدد بالاسم من قبل المسئولين السودانيين، هذا التقدير السوداني يعني أنَّ ثمة تحالفًا إقليميًا ودوليًا صار يطلقُ النار على السودان من أرض الجنوب.

لقد تحولت دولة الجنوب إلى قاعدة إستراتيجية للكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وحلفائهم فى الإقليم خاصة أوغندا وإثيوبيا، لإنفاذ خططهم بشأن السودان وفي الإقليم أيضًا، وهو ما يطرح تساؤلات حول الوضع في هذا الإقليم، إذ صار الخط الواصل بين: (تل أبيب وواشنطن، وأديس أبابا وأوغندا، وجنوب السودان) يمثل حلفًا إستراتيجيًا كبيرًا وخطيرًا، إذا وضعنا في الاعتبار ما تقوم به إثيوبيا في القرن الإفريقي، وما تقوم به أوغندا في منطقة وسط أفريقيا.

معركة هيجليج: إعلام بتحولات إستراتيجية كبرى، سيكون أول أهدافها تفكيك السودان وإنهاء ما تبقى له من تماسك!