تضخم الذات وأثره على الثورة

هلك من عمل لدنياه، بهدم دنيا غيره، وفاز من كان خيره للناس، ولو على حساب نفسه؛ {وَيُؤْثِرُ‌ونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، وهنا تبرز معالم القدوة، ومظاهر إرادة الصالح العام.


الكاتب: د. عامر أبو سلامة

الإسلام لما ركز على الإخلاص، كحالة تربوية، تعمل على ضبط السلوك، وتحرير المسائل على وفق المنهج الذي يؤدي إلى عزة الموقف وصفائه، لم يكن ذلك لأمر عابر، أو تصور فلسفي مجرد، بل كان ثابتًا من ثوابت التغيير، في الأنفس والآفاق، التي إذا ما خرمت واحدة من مفرداته، فإنها تحدث خللًا كبيرًا في العمل الذي يقوم به الفرد أو الجماعة، بل ربما يكون سببًا في الإتيان على العمل من قواعده.

لذا ليس غريبًا أن يجعل بعض العلماء حديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» يمثل ربع قيم ومبادئ الإسلام، ذلك لأن مدار الأصل الأول قائم عليه، إضافة إلى صوابية العمل، وبهذا تتعادل المسألة، وتقف على قدميها، وتنظر بعينيها.
ومن أكبر المصائب التي تبتلى بها الحركات، خصوصًا في فترة حراكها الثوري، أن يكون في صفوفها، أولئك الذين يعشقون ذواتهم، ويدورون في فلك أنفسهم، ولا هم لهم إلاّ تحقيق مصالحهم الشخصية، واللهث وراء مكاسبهم الذاتية.
ومن كان كذلك، فإنه يمثل صورة من صور الهلكة للعمل الذي يقوم به؛ ويكون عائقًا كبيرًا للمشروع كله، فضلًا عن إهلاك نفسه، فتكون الخسارة كبيرة، والنتائج وخيمة، والمآلات يندى لها الجبين.

ويقول الذين خبروا التاريخ، وأجادوا قراءته بعمق: إن أكبر مصيبة تحل في مسيرة أي عمل تحريري، وجود هذا الصنف من البشر، وأنهم عوائق السير، ومعرقلو حركة المضي نحو الفعل الإيجابي، لأن نفوسهم المريضة كانت على الطريق، مقدمة عندهم على كل شيء.
وإن كثيرًا من هؤلاء يتساقطون على الطريق اللاحب، وربما دخلوا بمشروع العدو من حيث يدرون، أو لا يدرون، لأن عمى (عشق النفس) جعله في حالة من التخبط، وحقيقة من التيه، ما عاد -بسببها- يعرف يمينه من شماله، ولا صار يميز بين الأشياء، صوابها من خطئها، كالذي أصيب بعمى الألوان، والشيطان يكمن بالتفاصيل، التي يقع في حبائلها، كثير من هذا الصنف، والعياذُ بالله.

إن نجاح أي عمل، مرهون بصدق حملته، وإخلاصهم له، وتفانيهم من أجل نجاحه، وبذلهم الغالي والنفيس، لتحقيق الهدف الذي ترنو له النفس، ويتطلع لمجده المرء، لذا تجد هذا الصنف من الناس، هم السر الأساسي في نجاح هذا العمل، بذلوا أموالهم، ولم يبخلوا بأوقاتهم، قدموا العمل للمبدأ، على الدنيا بما حملت، وتعالوا على إغراءات الشيطان رغم أنه يسيل لها اللعاب، واختاروا الطريق الآخر، الذي كلفهم الكثير، ربما سجنوا وعذبوا، وبقوا على الطريق ثابتين، وربما قتل أقرب المقربين لهم، فما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل كثير من هؤلاء القادة قضوا على أيدي الأعداء، وجاء من بعدهم ليقطف ثمرة جهادهم وثباتهم واستشهادهم، فيصبحون رمزًا للأمة، تدين لهم بهذا الفضل الكبير، الذين صنعوه لشعوبهم، وهنا يكمن الخير، وتكون بركة العمل، للصادقين المخلصين، الذين ضحوا بكل شيء، من أجل أمتهم وأوطانهم، «وخير الناس، أنفعهم للناس» (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة)

وتبرز معالم الفرق، بين هذا الصنف، وبين الصنف الآخر(عابد الذات)، أن هذا الأخير لا تُرجى منه ثمرة، بل هو شر كله، خصوصًا إذا غلف ذاته بالمبادئ التي يسعى الناس لتحقيقها، أو ألبس نفسه لبوس المصلحة العامة، لأن المشهد صار أكثر تعقيدًا في فرز المسألة، إذ اختلطت اختلاطًا يعجز المرء في تحديد كنهه، إلاّ ما يشم من رائحة تعطيك دلالة، أو إشارة تحتاج إلى فراسة حاذق، ليوظفها بذكاء، في تقرير من يقدم ومن يؤخر، وهذا لا إشكال فيه، أما الأول فمشكلة، لأن النوايا لا يعلم بحقيقتها سوى الله تبارك وتعالى.
خاب وخسر من يفتش عن لعاعات الدنيا في مزابل الناس، وارتقى وارتفع من ترفع عن ما في أيدي الناس، ليحبه الله، ويحبه الناس.

هلك من عمل لدنياه، بهدم دنيا غيره، وفاز من كان خيره للناس، ولو على حساب نفسه؛ {وَيُؤْثِرُ‌ونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، وهنا تبرز معالم القدوة، ومظاهر إرادة الصالح العام.

من لا هم له إلاّ نفسه، أناني، ومن لازم هذا أن تكون بذور الجريمة -بصورة من صورها- موجودة في مكنونات نفسه، تبرز في الوقت غير المناسب، وغالبًا ما يكون هذا بعد فوات الأوان.
ومن صور هذا؛ أن من تضخمت ذاته، يكون حاقدًا، لا يعرف الصفاء، وكارهًا للآخرين إلاّ إذا صفقوا له وقدموه، وحقق أنانيته من خلالهم، ويا ويل من صرح أو ألمح، أنه لا يصلح للعمل الفلاني، أو قلل من مواهبه في جانب من الجوانب.
العجب كل العجب، أن يطلب المرء لنفسه شيئًا من أشياء حظوظ النفس بلا خجل ولا تورية، جهارًا نهارًا، عنادًا وإصرارًا، صياحًا ونياحًا، تشبثًا ومغالبة، فإن حقق ما يريد فبها ونعمت، وإلاّ فتقوم الدنيا ولا تقعد، والغريب المدهش ممن يحاول أن يؤصل لهذه الحالة المرضية القاتلة، بأن يوسف -عليه السلام - طلب ذلك، وقدم نفسه للقيام بالعمل، فقال: {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْ‌ضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].

يوسف -عليه السلام- قالها وهو صافي النفس، محب للعمل، مريد للخير، باحث عن الأجر والثواب من الله تعالى، فلم يدر في فلك ذاته، ولا خطط لمصالحه الشخصية، وهو يشعر بأن هذا الذي سيقوم به، إنما هو أمانة يؤديها، وليس وسامًا يحصل عليه، وأنها تكليف ومسؤولية، وليست تشريفًا ورفعة دنيوية، وفرق هائل بين الصورتين، وبون شاسع بين الحالتين.
حقًا، إن تضخم الذات، من عوامل تأخر النصر.


 


المصدر: رابطة العلماء السوريين