هل توحد (المحاكمة الهزلية) الثوار من جديد؟

أُسدل الستار على المسرحية الهزلية المعروفة باسم محاكمة مبارك، أثبت النظام السابق أنه لا يزال موجودًا بكامل أركانه ونفوذه ويده الطولى العابثة بمقدرات البلاد، استطاع أركان النظام السابق أن يمارسوا فسادهم السياسي في حقبة ما بعد مبارك كما مارسوه في عهد المخلوع، ظلال حقبة مبارك لا تزال مخيمة على الدولة المصرية وهي على بعد خطوات من اختيار رئيس جديد.


أُسدل الستار على المسرحية الهزلية المعروفة باسم محاكمة مبارك، أثبت النظام السابق أنه لا يزال موجودًا بكامل أركانه ونفوذه ويده الطولى العابثة بمقدرات البلاد، استطاع أركان النظام السابق أن يمارسوا فسادهم السياسي في حقبة ما بعد مبارك كما مارسوه في عهد المخلوع، ظلال حقبة مبارك لا تزال مخيمة على الدولة المصرية وهي على بعد خطوات من اختيار رئيس جديد.

استطاع النظام السابق أن يفسد كافة الأدلة المتعلقة بقتل المتظاهرين، ومكَّنهم القضاء من الإفلات من جريمتهم الشنعاء تلك بأن أعطى أحكامًا أقل ما يقال عنها: إنها مخففة وتقترب من درجة التواطؤ على الدولة المصرية بعد (خطبة عصماء) ألقاها رئيس المحكمة ظن الجميع أنه سوف يعدم الجميع ولن يستثني أحدًا، وأنه يتحدث باسم الثورة والثوار وباسم (الشباب الشرفاء) الذين قضوا على (الطغيان)!

كافأ رئيس المحكمة أركان النظام السابق ـ الذين أفسدوا الأدلة ـ بأن استبعد شهادتهم! هذا أقصى ما فعله مع قتلة الثوار ومع الشهود الذين استبعدهم رئيس المحاكمة بحجة إفسادهم للأدلة، وهذه جريمة في حد ذاتها، ولكنه كافأهم بأن استثنى أقوالهم وشهادتهم، وبرَّأ كبار مساعدي وزير الداخلية، المنفذين الحقيقيين لتعليمات مبارك والعادلي على الأرض.


استدل رئيس المحكمة بأنه لم يُدَنْ أحد من الضباط الصغار على الأرض، فكان لسان حاله: كيف نقاضي الكبار إذا لم يدن الصغار وهم اليد الفاعلة، فهذا يثبت عدم حدوث الفعل نفسه، لذلك تنتفي الشبهة عن المحرضين، هذا لسان حال رئيس المحكمة وإن لم يترجمه إلى أقوال.

بعد الخطبة العصماء في بداية الجلسة ظن الجميع أن القصاص من قتلة الشهداء بات قريبًا جدًّا، وأن العدل لا يزال موجودًا في القضاء المصري بالرغم من إفساد مبارك له طيلة ثلاثين عامًا، بتعيين المقربين والمفسدين على أهم مفاصل القضاء المصري ومحاكمه العليا، ولكن ثبت أن فساد مبارك وحاشيته وزبانيته لا يزال متجذرًا حتى نخاع الدولة المصرية، وأن الشفاء من ذلك المرض العضال لا يتم إلا بحل واحد، وهو البتر.


لقد حكم رئيس المحكمة على مبارك والعادلي بالسجن المؤبد، حقنة مسكِّنة لأهالي الشهداء وللثوار في الميادين أعقبها على الجرعة المخدرة الأولى من خطبته العصماء، فالحكم متهافت، وقد برر رئيس المحكمة أحكام البراءة ولم يبرر أحكام الإدانة، التي هي أوهن من بيت العنكبوت، ولن تصمد سوى لجلسة واحدة حال الطعن في النقض، وسيحصل مبارك والعادلي على البراءة (المؤكدة) من أول جلسة لتهافت الحكم والأدلة وانتفاء البراهين، وكذلك انتفاء الإدانة على أي من الفاعلين الأصليين ـ ضباط الشرطة ـ فكيف يتم إدانة من يعتبرون محرضين في حين أنه (لا جريمة) بالأساس؟

أما جمال وعلاء مبارك فقد نالا البراءة أيضًا (لانقضاء المدة)، ولم يوجه إليهما أية اتهامات سواء باستغلال منصب أبيهم ونفوذه في عقد الصفقات المشبوهة وعلى رأسها قضية تصدير الغاز لإسرائيل وهي الجريمة محل التقاضي والتي ثبت تلقي الاثنين رشاوى من أجل تمرير الصفقة، وهناك أدلة ومستندات تفيد بذلك ولكن لم تلق لها المحكمة بالاً في حين أن الجريمة مستمرة ولم تنقضِ آثارها وتبعاتها، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم، وهي نتاج فساد وسوء استخدام للسلطة والنفوذ.

لقد تم إخراج المسرحية بجودة هوليودية: إخراج أهالي الشهداء قبل النطق بالحكم، خطبة عصماء لتسكين وتخدير الرأي العام والحضور في القاعة وإضفاء صفة النزاهة على الحكم، أحكام واهية، تبريرات ساقطة، وعدم تفسير الحكم المؤبد لمبارك والعادلي، مما يؤكد هشاشته وانقضائه مع أول طعن عليه.


إن هذا الحكم (التاريخي) يثبت أن الثورة قد فشلت في تحقيق أهدافها، وأن أقطاب النظام السابق لا يزالون ممسكين بكافة مفاصل الدولة، وأن القضاء هو الآخر لم يكن بمنأى عن فساد مبارك وزبانيته، وأن القادم سيكون أسوأ إذا لم تستمر الثورة في تطهير البلاد من ذلك النظام الفاسد؛ فالفريق أحمد شفيق صديق مبارك الحميم يستعد لاستلام السلطة، وخروج علاء وجمال ينبئ باستعادة نفوذيهما داخل البلاد مرة ثانية بكل ما يملكانه من سطوة ومال، وسيعيد الحزب الوطني لملمة جراحه مرة ثانية وسيصبح أكثر شراسة من النمر الجريح الذي ظل قابعًا وراء القضبان لعام كامل.

كما أن تلك الأحكام الواهية تثبت أيضًا أن دولة الفساد لا تزال ظلالها تخيم على الأجواء المصرية، فالفقراء يوكلون محامين فقراء مثلهم، والضعفاء لا حيلة لهم ولا تزال حقوقهم تداس على يد القلة الفاسدة، وأن دماء السادة أرقى وأغلى من دماء الفقراء حتى لو كانوا شهداء، وأن دولة الظلم لا تزال موجودة بكافة أركانها، وأن الفقير فقط هو الذي يقام عليه حد الله والقصاص العادل.


من أبلغ الصور في تلك المحاكمة هي ابتسامة السخرية التي ظهرت على وجه حبيب العادلي أثناء النطق بالحكم وتفسيره، فهذا الرجل الذي يقضي حكمًا بالسجن لاثنتي عشرة سنة في قضية فساد يبدو أنه خارج من نادي صحي وليس من سجن، وهو يعلم تمام العلم أن تلك (التأبيدة) متهافتة ولن ينل منها سوى بضعة أيام هي زمن الحكم في الطعن، وأنه سيخرج في نهاية مدته القصيرة لينعم بأمواله التي نهبها من قوت الفقراء ومن حقوق أبنائهم، إنها ابتسامة ساخرة كاشفة عن كل أبعاد تلك المسرحية الهزلية المسماة (محاكمة).


إن الثورة المصرية اليوم في لحظة فارقة، هي ما بين الإخماد والوأد، ما بين انقسام الثوريين أنفسهم وبين توحد أقطاب الفساد والظلم والاستبداد، تلك اللحظة الفارقة تتطلب أكثر من أي وقت مضى أن تتوحد الجهود الثورية وأن تتوافق على قرار بشأن تلك المحاكمات والموقف من الانتخابات الرئاسية، ومن تطبيق قانون العزل، ومن إطلاق محاكمات سياسية ضد رموز النظام السابق، وذلك بعد أن تطالب القوى السياسية مجتمعة بتطهير القضاء من رجال مبارك وحاشيته وزبانيته، يجب أن تتفق القوى الثورية على أحد المسارين فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية: ما بين المقاطعة والضغط لتطبيق قانون العزل، أو ما بين الدخول في الانتخابات على قلب رجل واحد وراء مرشح واحد، وإلا فإنهم جميعًا سيكونون مسئولين عن ضياع الثورة وتسليمها على طبق من ذهب لمبارك من جديد، كما يجب على القوى الوطنية أن تبدأ في إجراءات توجيه اتهامات سياسية لرموز النظام السابق وإعادة تطبيق قانون الغدر والبحث في إمكانية تفعيله، وإلا سيكون الثوار خونة لدماء الشهداء الذين لا نعلم من قتلهم حتى اللحظة.


إن الأمة المصرية على مفترق طرق جديد؛ أحد الطرق يعيدنا إلى عصر مبارك، والطريق الآخر هو طريق اللاعودة، طريق استكمال الثورة، طريق المحاكمات والإجراءات الثورية، والأخير هو الطريق الوحيد المتاح أمام الثورة والثوار، والموت دون الطريق الآخر.


محمد سليمان الزواوي
 

<