القدس عربية إسلامية

يحيى الزهراني

إن القضية الفلسطينية، قضية جميع الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وليست قضية الفلسطينيين فقط، كما صوّرها أعداء الدين، حتى انطلى الأمر على كثير منا ، بل هي قضية تخص كل مسلم ومسلمة ...


الحمد لله على ما منح من النعماء، والشكر له على عظيم الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونعوذ به من مكر الأعداء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جعلنا على المحجّة البيضاء، وحذر من الاختلاف والشحناء، والفرقة والبغضاء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأوفياء، الذين استقاموا على النهج وقصدوا الحق، فكانوا إخوة أصفياء، ورضي الله عن التابعين المؤمنين الأخلاء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن سار على نهجهم واجتنب سبيل أهل الأهواء.. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم ملاقوه، ولن تعجزوه، قال تعالى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً.يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } .

أيها المسلمون: إن القضية الفلسطينية، قضية جميع الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وليست قضية الفلسطينيين فقط، ولا قضية العرب فقط، كما صوّرها أعداء الدين، حتى انطلى الأمر على كثير من المسلمين، بل هي قضية تخص كل مسلم ومسلمة، أليس الله يقول : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ، أليس يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو المسلم ».

أمة الإسلام: أكثر المسلمين اليوم لا يعرف عن القدس إلا اسمها، هذه البقعة الطيبة الطاهرة، والتي يدّعيها اليهود، وأنهم أحق بها من أهلها، فحتى تتبين الحقائق، وحتى تتضح الصورة واضحة جلية، فقد كتب التأريخ العربي والإسلامي واليهودي والنصراني عن هذه البقعة ومن سكنها منذ آلاف السنين، فالقدس أرض عربية إسلامية ولو كره الكافرون، ولو زمجر المغرضون، ونهق الناهقون.

إخوة الإيمان: لقد كانت القدس مسكونة منذ زمن موغل في القدم، وكانت مقصد البشر منذ ذلك الزمن، وأول من سكن القدس هم اليبوسيون من بطون العرب الكنعانيين من جزيرة العرب، وكان ذلك قبل 3500 سنة قبل الميلاد، وهذا هو الذي يشهد له التأريخ البشري، ومن المتفق عليه بين المؤرخين، حتى اليهود أنفسهم، ولذا كان أقدم اسم سمّيت به فلسطين "كنعان" نسبة للكنعانيين العرب الذين قطنوها إبان ذاك، ثم تصدى اليبوسيون للهجمات الشرسة من اليهود منذ ذلك الوقت، بقصد الاستيلاء على القدس، ولكن باءت محاولاتهم بالفشل، فسكن العرب -وهم سكان فلسطين الأصليون مع قبيلتي بنيامين ويهوذا من أسباط بني إسرائيل- في أورشليم، ثم توالت المحاولات من بني إسرائيل لإخراج العرب من بلادهم والسيطرة عليها ولكنها فشلت كسابقاتها، فبقيت السلطة للعرب حقبة من الزمن، يناضلون عن ديارهم، ويدافعون عن مقدساتهم، وبقيت القدس تحت السيطرة العربية إلى عهد نبي الله داود عليه السلام، حيث فتح بيت المقدس. ثم بعد موته، جاء ولده سليمان عليه السلام، ليكمل الهيكل الذي بدأه أبوه، وبعد أن اندثر ذلك الهيكل وانهدم، وزالت معالمه تماماً، إلا أنه لا يزال مسيطراً على أفكار اليهود ومعتقداتهم الدينية، بل أعطوه كل المعاني الحربية والعسكرية الممكنة. إنه هيكل مزعوم وخرافة كاذبة يدعيها أعداء الله اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة، فمع ما قدمه لهم أنبياؤهم من إدخالهم إلى بيت المقدس، وسيطرتهم عليه، بعدما كانوا أذلة صاغرين، خائفين مذعورين، بعد ذلك كله، قتلوا أنبياءهم، وكذبوهم، بل وألحقوا بهم التهم الباطلة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

أيها الاخوة الكرام: لقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ومبشراً ونذيراً، حتى بشّر النبي الكريم بفتح الشام وبيت المقدس، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه سلم قال: « ست من أشراط الساعة: وذكر منها: وفتح بيت المقدس ». حديث صحيح صححه الألباني. فكاد له اليهود العداء حتى حاولوا قتله مراراً وتكراراً، ولكنهم باءوا بغضب من الله ولعنة.

ثم توالت الفتوحات الإسلامية في عهد نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم، وفي عهد خلفائه الراشدين، ففي عهد الخليفة أبي بكر الصديق أغار المسلمون على الروم في معركة أجنادين، وكان جيش الروم يقدر بأكثر من مائة ألف مقاتل، في حين كان عدد المسلمين ثلاثة وثلاثين ألفاً، وكان قائد المسلمين في تلك المعركة سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، فدارت رحى الحرب بين المسلمين والروم، فكان القتال مريراً، حتى كتب الله النصر لأوليائه، والدحر لأعدائه، فانتصر المسلمون نصراً مؤزراً، وقد فتحت عدة مدن فلسطينية آنذاك، منها عسقلان ونابلس والرملة وعكا واللّد، وفتح عمرو بن العاص مدناً أخرى منها يافا ورفح، وغزة.

وبهذا مهّدت الجيوش الإسلامية في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه الطريق للزحف نحو بيت المقدس. وبعد موت الصديق تولى الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكان على جيوش المسلمين أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، فحاصر أهل إيلياء، شهوراً عدة، وكان أهلها يتحصنون بالحصون المنيعة، حتى نزلوا على الصلح مع المسلمين، وذلك بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويكونون تحت الحكم الإسلامي، ولم يجرؤ اليهود طوال أيام الخلفاء الراشدين، والخلافة الأموية على الاستيطان بالقدس، فبقيت القدس دولة إسلامية شامخة لا يهز كيانها وإباءها أي يهودي أو صهيوني كافر متملّق، حتى وقعت القدس تحت طائلة الحكم العبيدي الفاطمي في عهد المعز لدين الله، ثم توالت الحروب للاستيلاء على فلسطين، ولقد عادت السيطرة الصليبية على بيت المقدس حتى عام 583هـ، حيث هيّأ الله تعالى للأمة رجلاً صالحاً عمل على توحيد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة، إنه صلاح الدين الأيوبي، الذي انطلق لعملية الفتح الإسلامي، فبعد معركة حطين، توجه نحو عسقلان، ومنها إلى القدس، وفرض عليها حصاراً قوياً اضطر معه الصليبيون إلى الاستسلام، وما إن توفي البطل صلاح الدين الأيوبي حتى دبّ الخلاف فيمن بعده بسبب أطماع دنيوية، ودسائس يهودية، وخيانات سياسية. فسلّمت القدس مرتين للصليبين دون قتال.

أيها الأحبة في الله: بيت المقدس ثالث الأماكن المقدسة للمسلمين، فيه المسجد الأقصى، وإليه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنه عُرج به إلى السماء السابعة، وهو أولى القبلتين، ومهوى أفئدة كثير من المسلمين. ولكن نتيجة لبعد المسلمين عن دينهم، وتفرق كلمتهم، وشتات أمرهم، وابتعاد دويلاتهم، وحب الدنيا بينهم، وقعت فلسطين تحت الحكم البريطاني عقب الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك فرصة كبيرة للهجمة العنصرية اليهودية المدعومة بالعون الصليبي ، حيث سهلت لهم بريطانيا سبيل الهجرة إلى فلسطين، لأن بريطانيا ضاقت باليهود ذرعاً في بلادها -نتيجة المكر والخيانة التي عُرفوا بها بين الشعوب العالمية-، فهيّأت لهم بريطانيا الجو المناسب لتنظيم أنفسهم، وتدريبهم على السلاح، وحاول الفلسطينيون الوقوف في وجه اليهود وأعوانهم، وكاد جهادهم أن يكلل بالنجاح، لولا تخذيل الحكومات العربية لهم، ورفع يد المعونة والمساعدة عنهم، والخيانات التي وقعت ضدهم، وانحياز أمريكا إلى جانب اليهود، حتى وقعت فلسطين تحت سيطرة اليهودية الآثمة منذ عام ألف وثلاثمائة وسبعة وستين للهجرة، حيث أعلن اليهود عن إقامة دولة إسرائيل، وباركت جميع الدول الكافرة تلك الشوكة في حلوق العرب والمسلمين، حتى يأمن الغرب غارات الدول الإسلامية، أو إقامة رايات الجهاد على دول الكفر والإلحاد، فوضعت إسرائيل عقبة تعيق كل مسيرات الدعوة إلى الله، ومازال الفلسطينيون منذ ذلك اليوم يعانون أشد أنواع الاضطهاد والتعذيب والتشريد والقتل والهدم والاغتصاب على مرأى من جميع دول العالم العربي والإسلامي.

معاشر المسلمين: أين أنتم عن جرائم الحرب الإبادية التي يقوم بها اليهود الصهاينة ضد إخوانكم في فلسطين، إنها مجازر ومذابح جماعية، لقد قتلوا في الغارة الماضية على مخيم جنين، مئات القتلى من المسلمين الشهداء، وأودعوهم مجاري المياه، وأماكن التصريف الصحي، وفاحت روائح جثث المسلمين، ودفنوا الكثير منهم حتى لا تُكتشف تلك المذبحة اليهودية الفادحة ضد شعب فلسطين المسلم، إنها أوسمة من الفضيحة والعار تحيط برقاب المسلمين في كل مكان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم إنا نبرأ إليك مما فَعل الخونة من المسلمين، ونعوذ بك مما فُعل بالمسلمين.

يقول الملك عبد العزيز رحمه الله: "ما من شك في أن الحركة الصهيونية تجند الأنصار والأتباع، بينما العرب ليس من ينصرهم إلا الله، ثم حقوقهم الصريحة في أوطانهم وأنا لا أخشى اليهود، لأن الله سبحانه وتعالى قد ضرب عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم القيامة، وإذا كنا متمسكين بمعتقدنا عاملين بأوامر ديننا بإذن الله لن نخشى اليهود ولن نبالي بهم لأن الله تعالى معنا".

أمة الإسلام: يجب على المسلمين أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وعلى تباين دولهم وأجناسهم لرد فلسطين إلى أهلها, وصيانة المسجد الأقصى مهبط الوحي ومصلى الأنبياء الذي بارك الله حوله، صيانته من دنس الصهاينة الغاصبين، وحماية أثار المشاهد الإسلامية من أيدي هؤلاء العابثين، وأن يعينوا المجاهدين بالسلاح وسائر القوى على الجهاد في هذا السبيل وأن يبذلوا كل ما يستطيعون، حتى تُطَهَّرَ البلاد من أثار هؤلاء الطغاة المعتدين. كيف ويعلم الناس جميعاً أن اليهود يكيدون الإسلام وأهله ودياره أشد الكيد منذ عهد الرسالة إلى الآن, وأنهم يعتزمون أن لا يقفوا عند حد الاعتداء على فلسطين و المسجد الأقصى, وإنما تمت خططهم المدبرة إلى امتلاك البلاد الإسلامية الواقعة بين نهر النيل و الفرات.

وإذا كان المسلمون جميعاً -في الوضع الإسلامي- وحدة لا تتجزأ بالنسبة إلى الدفاع عن بيضة الإسلام, فإن الواجب شرعاً أن تجتمع كلمتهم لدرء هذا الخطر والدفاع عن البلاد واستنقاذها من أيد الغاصبين. إننا نوقن بأن فلسطين أرضاً إسلامية وستبقي إسلامية وسيحررها أبطال الإسلام من دنس اليهود كما حررها الفاتح صلاح الدين من دنس الصليبيين, قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .

عباد الله: إن الشباب عماد الأمة، وقوامها الذي تقوم به، ومجدها الذي تعتز به، ودرعها الذي يقف سداً منيعاً لها من أعدائها، ولكن هل الشباب اليوم، هم أولئك الشباب الذين تترقبهم أمتهم، أهم أولئك الشباب الذين يحذرهم أعداؤهم؟ إن شبابنا اليوم، شباب بطن وفرج، شباب شهوة وسياحة، سياحة لمعاقرة الخمور والمخدرات، وفعل الفاحشة بالعاهرات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ». رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. شبابنا اليوم إذا طلبتهم، وجدتهم على الأرصفة مجتمعين، وحول الدشوش متحلقين.

شباب الإسلام اليوم، شباب لهو وغفلة، شباب رقص وغناء، وتقليد للكفار والرعناء..

فآه ثم آه لشباب الإسلام، أهؤلاء الشباب هم الذين سيحرّرون مقدسات المسلمين؟ أهؤلاء الشباب هم الذين سيثأرون من اليهود الغاصبين، والنصارى الحاقدين، والعلمانيين المنافقين؟ أشباب اليوم هم أحفاد عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وصلاح الدين؟ إذا كانت الأمة اليوم عاجزة عن إنجاب مثل أولئك الأبطال المجاهدين والمحررين الفاتحين، فلنقم على أنفسنا مأتماً وعويلاً، وصراخاً ونحيباً.

أيها الاخوة المؤمنون: إن العالم الإسلامي والعربي بأسره، يقف وقفة ذل وصغار، وقف مسكنة وعار، أمام تلك الأحداث الدامية في فلسطين، إن العالم الكافر بقيادة دولة الكفر الأمريكية والبريطانية الفاجرتين، يقف صفاً واحداً مع الشعب اليهودي من أجل القضاء على المسلمين، في كل بقاع الأرض، والدول الإسلامية تقف وقفة عجيبة غريبة من القضية الفلسطينية، وقفة سلبية، فماذا ينتظرون وقد أعلن خنزير اليهود، وطاغية الصهاينة الحرب على الفلسطينيين، بل وعلى المسلمين أجمعين، وبدأ بالإبادة الجماعية لهم ، بكل قوة وجرأة، والله تعالى يقول: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } ، وقال صلى الله عليه وسلم: « لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ». رواه الترمذي.

فماذا بقي أيها المسلمون، لقد أعلن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعات أعلنوا الحرب على المسلمين، فلماذا الانتظار، ولماذا الاختباء، ولماذا تدفن الرؤوس في التراب كالنعام، أينتظر المسلمين أن يحل بهم ما حل بإخوانهم في فلسطين، أينتظرون أن تحتل ديارهم ثم يصرخون ويولولون، والله لن يرتدع اليهود والنصارى عما هم عليه من الطغيان والقتل والبغي والعدوان، حتى يقف المسلمون يداً واحدة، ولن يرتدع الأعداء حتى يروا المسلمين صفاً واحداً يقاتلون أعداء الله تعالى، لن يرتدعوا حتى يروا المسلم ينصر أخاه المسل، ويتمعر وجهه إذا أُسيء إلى أخيه المسلم، أو قُتل، أو أُغتصبت أرضه، أو انتهك عرضه، أينما كان، وحيثما وُجد، هكذا سيكون للمسلمين شوكة، هكذا سيكون للمسلمين منعة وعزة، وهكذا ستقوم للمسلمين قائمة { إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } .

أمة الإسلام: هاهي الصيحات والصرخات، وهاهي الاستغاثات والآهات تتدفق من هنا وهناك، تنطلق من كل حدب وصوب من أرض فلسطين الحبيسة المغتصبة، إنها صرخات الثكالى، إنها استغاثات الأيتام والأرامل، وآهات كبار السن والرضع، يشكون إلى الله تعالى ضعف حالهم، وهوانهم على شعوب المسلمين، فلا معين لهم ولا نصير، ولا مساند ولا ظهير، { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ.أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } ، إن إخوانكم المسلمين في القدس المحتلة ينادون ويستغيثون، إنها دماء تتدفق ودموع تنهمر، وجراح لن تندمل وأحزان وأتراح لن تنجبر، والله ثم والله إن النصر لنا ما تمسكنا بديننا، وراجعنا أنفسنا، فالله تعالى يقول : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، ويقول جل جلاله: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، لقد كان عدد المسلمين في غزوة بدر الكبرى قرابة الثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً، وكان جند الكفر إذ ذاك يفوق الألف مقاتل، ولكن الله معهم يسمع ويرى، { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، { يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ.الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، لقد قُتِلت أُسر بأكملها، ولقد دمرت منازل بأهلها، فلم يبق منها إلا شاب أو فتاة، فقدّما نفسيهما من أجل دفن الأحزان، والثأر للأهل والإخوان، من أجل طرد العدو الصهيوني الغاصب، من أجل الجهاد في سبيل الله، صرخوا فلا مجيب، ونادوا فلا قريب.

وانظروا إلى الفتيات الفلسطينيات في ريعان شبابهن يقدمن أنفسهن ضحاياً وشهداء من أجل دحر العدو الصهيوني، تقول إحداهن: سأفعل ما لم يفعله رؤساء الدول الإسلامية، فربطت وسطها بحزام الموت، وألقت بنفسها بين أيدي اليهود، فوقعت صريعة وقتلت معها الفئام من القردة والخنازير، لقد أعطت دروساً في الرجولة والإباء، دروساً في الصمود والقتال، لقد أخجلت رجال الأمة وشبابها، حينما قذفت بنفسها، تطلب الشهادة والفوز بالجنة، فسبحان الله كيف تعيش أمة الألف مليون مسلم، غفلة عجيبة، ونومة غريبة.

معاشر المسلمين: الجنة غالية، ومهرها الشهادة في سبيل الله، الشهادة تريد الرجال الأغوار الأبطال، الذين يضحون بأنفسهم رخيصة في سبيل الله، الذين يحملون أعناقهم على أكفهم، ليقدموها مهراً لجنة الخلد وملك لا يبلى، إلى متى سيعيش الإنسان، وكم سيعيش، مائة سنة أو أكثر أو أقل، ثم ماذا بعد ذلك، إنه الموت الذي لا مفر منه، ولا مناص عنه.

قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران:185]، وقال صلى الله عليه وسلم : « أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك ». رواه ابن حبان والترمذي.

إن كانت هذه هي الحياة، أكل وشرب ونوم ونكاح ثم موت، فمرحباً بالموت، ولكن في سبيل الله؛ فالشهادة مطلب كل مسلم، لما للشهيد من أوفر الحظ والنصيب عند السميع الحسيب، ولما له من منزلة عالية في الجنة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد ». رواه البخاري.

وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من جُرِحَ جرحاً في سبيل الله جاء يوم القيامة ريحه كريح المسك لونه لون الزعفران عليه طابع الشهداء ومن سأل الله الشهادة مخلصاً أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه ». رواه ابن حبان.

وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له في أول دفعة -يعني من دمه- ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه ». رواه الترمذي وصححه الألباني.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة ». رواه الترمذي وقال حسن صحيح، ووافقه الألباني.

أيها الاخوة: كانت تلك بعض الكلمات والنقولات عمن أهمهم أمر الدين، وأرَّقهم ما يحصل للمسلمين، من ذل واضطهاد ، وقتل وتشريد، فهي عبارات وآهات سطرتها الأقلام على الأوراق، وسطور عبرت عما في النفس من حزن وأسىً للواقع المر الذي تمر به الأمة الإسلامية، في ظل غياب الوازع الديني عن كثير من أفرادها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }.

ولكن نرجو من الله تعالى أن يحقق لنا وعده بقوله تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب } وليس ذلك على بعزيز. وأسأل الله تعالى الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع قريب مجيب.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم سدد رميهم، وقوي عزائمهم، وكثر عددهم وعتادهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول والإنعام، اللهم يا قوي يا عزيز، يا جبار السموات والأرض، اللهم قاتل الكفرة الفجرة من اليهود والنصارى، والشيوعيين والعلمانيين الذي يحاربون أولياءك، ويدينون بغير دينك، اللهم أدر الدائرة عليهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أضعف شوكتهم، وأخطئ رميهم، وأضل أفكارهم، وأفسد مخططاتهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم اجعل كيدهم بينهم، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أهلكهم بالقحط والسنين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك واجعل عمله في رضاك، اللهم ارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم بها منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع صيد الفوائد