الإخلاص في الدعوة إلى الله الإخلاص هو تجريد القصد لله تعالى ، وطلب
مرضاته دون سواه ، وهو روح الأعمال وأساس قبولها عند الله ، قال تعالى
: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه
أحدا " .
ولا يتحقق الإخلاص في الدعوة إلا عندما يتأكد الداعية أن قصده رضا
الله تعالى ، ويتجرد من الانقياد وراء حظوظ النفس ونوازع الهوى ومطالب
الذات ، ويحرر نفسه من قيود الرياء ، وطلب الشهرة أو المدح أو الظهور
أو السمعة ، أو حب التصدر والرئاسة والجاه ، ويتخلص من السعي خلف شهوة
المال والجاه ، وطلب المنزلة في قلوب الناس واستقطابهم ، أو السعي
وراء أي متاع من متع الدنيا وجعل الدعوة وسيلة له .
أهمية الإخلاص في الدعوة :
لئن كان الإخلاص مهما في جميع أعمال المسلم ، وركن أساس من أركان
استقامتها وقبولها ، فإنه بالنسبة للدعوة إلى الله تعالى أهم وأجدر
بمن تصدى لهذا العمل الشريف - ومن المفترض أن يكون الجميع كذلك - ، و
ذلك لعدة أسباب رئيسة من أهمها :
أولا : إن طريق الدعوة طريق شاق ، مليء بالأشواك والمصاعب ، وليش
مفروشا بالورود والرياحين ، فالداعية فيه في أمس الحاجة إلى صبر شديد
يعينه على تحمل هذه المشاق والمصاعب كجفاء الناس وغلظ معاملتهم ، وقلة
تقبلهم ، وهذا الصبر لا يتأتى إلا بوجود قوة نفسية كبيرة يستمدها
الداعية من الإخلاص .
ثانيا : تحتاج الدعوة إلى الله تعالى إلى راحة نفسية وطمأنينة بال ،
وصفاء فكر ، لأن الشخص المضطرب نفسيا والمشتت فكريا ليس له إنتاجية
عملية في المجتمع ، لاستنفاد طاقاته الفكرية ، والإخلاص دائما أساس
الراحة النفسية ، فمن طلب الآخرة توحدت همته ، وتجمعت همومه في هم
واحد ، بينما الطالب للدنيا ورضا النفس تتشعب به أوديتها ، ويهيم في
بحار مقاصدها المختلفة ، ويتشتت بين مطالبها :
إذا جعلت الهم هما واحدا .*.*.*.*.*.*. نعمت بالا وغنيت راشدا
ثالثا : أغلب أعمال الدعوة إلى الله تعالى تكون مكشوفة ظاهرة للعيان ،
تكون في أوساط الناس ، فهي معرضة للرياء والتصنع والتكلف أكثر مكن
غيرها .
رابعا : كثر في هذا الزمان السعي وراء الشهرة ، واللهاث خلف السمعة ،
وأصبح حب الظهور والتصدر ، مقصد ومفخرة كثير من الناس ، فوجب على
الداعية أن يكون حذرا من هذا المنحدر الخطير ، بالتمسك بأهداب الإخلاص
.
خامسا : الدعاة مستهدفون في كل زمان ومكان ، من جميع أعداء الإسلام ،
ودعاة الرذيلة والفساد ، فأعدائهم يحيطون بهم من كل ناحية ، والحصن من
ذلك كله ، في الإخلاص لله تعالى والاعتصام به .
سادسا : الدعوة إلى الخير من أكبر ما يغيظ الشيطان ويوغر صدره ، فهو
واقف بالمرصاد لكل من سلك هذا السبيل ، بالتلاعب في نيته ، وتثبيط
عزيمته ، وتخذيل همته ، ولا سبيل لمقاومة كيده إلا بالإخلاص لله تعالى
.
سابعا : الإخلاص مظنة تقبل الناس لأفكار الداعية ، واستماعهم لكلامه ،
واقتناعهم بما يطرحه عليهم من أفكار ، فالناس دائما ينفرون من صاحب
المصالح الشخصية ، ويجدون فجوة بينه وبينهم ، فيصمون آذانهم عن
الإصغاء لكلامه ، ويغلقون عقولهم عن تقبل أفكاره .
ثامنا : الداعية محتاج دائما لتأييد الله تعالى ، ونصرته ، ومعونته ،
ولا يحصل على هذا التأييد وهو بعيد كل البعد عنه سبحانه وتعالى
بالتعرض لمرضاة غيره والنزوع لشهواته .
تاسعا : الإخلاص من أكبر أسباب البركة في جميع الأعمال .
ما يعين على الإخلاص في الدعوة :
أولا : تيقن الداعية تيقنا كاملا ، أن الناس لا يملكون لأنفسهم جلب
نفع ولا دفع ضر ، فهم من باب أولى لا يملكون ذلك لغيرهم ، وليعلم أنه
لو سجد له الناس من يوم ولادته حتى وفاته ، ثم صار إلى النار لم يفده
ذلك شيئا ، وأن كل من يرائيهم ويجاملهم ، سيأتون يوم القيامة في أمس
الحاجة إلى حسنة تدفع عنهم عذاب شر النار .
ثانيا : الزهد في الدنيا ،ومعرفة حقيقتها ، وقيمة لذائذها وحظوظها ،
فإن الزهد الحقيقي إذا تمركز في نفس الداعية ، انتفى طلب المصالح
الشخصية ، والسعي وراء متع الدنيا ، لصغر قيمتها في قلبه .
ثالثا : الحرص على الأعمال الخفية - خاصة في بداية الطريق - حتى تتعود
النفس على تجريد القصد لله ، ثم يبدأ في الأعمال الظاهرة ونفسه قد
تشربت الإخلاص ، وأصبح طابعا لها ، ثم يتدرج في هذا السلم بعد ذلك ،
ولا ينبغي له أن يقفز مباشرة إلى الأعمال الجلية ، فإن اشتاقت نفسه
إلى الأعمال التي ينتشر صيت صاحبها بين الناس فليتهم قصده .
رابعا : تدبر آيات النعيم ، وما أعده الله لأوليائه ، حتى تتشوق
النفس لذلك ، فتنحصر الهمة في طلبه .
خامسا : الاطلاع على سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وسير
السلف الصالح ، ليأخذ منهم الحرص على الإخلاص ، ويتعلم وسائل تنميته .
سادسا : استشعار رقابة الله تعالى ، واطلاعه عليه في كل لحظة ،
ومعرفته بجميع حركاته وسكناته ، وجميع ما يدور في قلبه ، وما تنطوي
عليه نفسه .
ما ينافي الإخلاص في الدعوة :
إن من أعظم ما يقدح في إخلاص الداعية ، ويفسد أعماله آفة الرياء ، وهو
العمل لأجل الناس واستقطابهم ، واستمالة المجتمع لشخص الداعية لا
لدعوته .
حتى يتحقق الإخلاص في الدعوة ، لا بد أن يتخلص الداعية من الآفات
النفسية التي تخل بإخلاصه ، وتوجه نيته إلى غير رضا الله تعالى ، ومن
أهم هذه الآفات :
أولا : حب الشهرة وهو التطلع إلى انتشار الصيت والسمعة بين الناس ،
حتى يصبح مشهورا عندهم ، معروفا لديهم ، وعلامته أن يميل إلى الأعمال
التي تشهر اسمه ، وتظهر شخصيته ، وينفر من الأعمال التي تغمر هويته ،
ومن علاماته أيضا حب المخالفة والاعتراضات لكونها طريقا سهلا للشهرة
وذياع الصيت ، ومن أكبر إماراته حب نسبة الأعمال إليه ، أو ما يسمى
بالسرقة الأدبية والفكرية .
ثانيا : حب التصدر والظهور وهو التطلع إلى حيازة أماكن الصدارة ، فإذا
جلس في مجلس فلا يقنع بما دون صدره ، وإذا عقدت ندوة فلا يرضى إلا أن
يكون في الواجهة ،وإذا نسب مشروع إلى مجموعة ما وهو من بينهم ، لا بد
أن يوضع اسمه في الصدارة وهكذا ، ويحز في نفسه أن يوضع في غير هذه
المواضع ، كما يحب أن يمشي الناس خلفه ، ويعجب بالتفاف الطلاب
والمريدين حوله .
ثالثا : حب المدح وهو القيام بالأعمال الدعوية من أجل الحصول على
امتداح الناس ونيل إطرائهم ، وعلامته أن يجد الداعية ميلا للأشخاص
الذين يتملقون له ويمتدحونه ، وينفر من سواهم ممن يدلونه على أخطائه
أو يهمشون دوره ، ولا يعترفون بأفضاله الدعوية - على حد زعمه - ولا
يغشى إلا المواطن التي تطرى فيها أعماله ويكثر فيها إطراؤه .
رابعا : جعل الدعوة وسيلة لجلب المال ، وعلامة ذلك أن يسعى جاهدا في
الأعمال الدعوة التي يجنى من وراءها مالا ، ويتكاسل عن غيرها ، بل قد
يرفضها البتة .
خامسا : جعل الدعوة وسيلة لشهوات دنيوية أخرى .. وذلك أن يدخل في سلك
الدعوة من أجل التقرب إلى امرأة لأجل الزواج ، أو التقرب إلى شيخ أو
إمام ، للحصول على منفعة دنيوية لديه .
كيف يختبر الداعية إخلاصه ؟
لكي يعرف الداعية إخلاصه في عمل دعوي معين ، أو نيته التي دخل بها
السلك الدعوي ، ينظر إلى الباعث الذي بعثه للعمل ، ويراجع نفسه في
الغرض الذي نشطه لهذا العمل من بداية الطريق .
فإن غالطته نفسه في ذلك وأبت إلا ادعاء الإخلاص ، فليتصور عدم تيسر
العمل ، فأول شيء يحز في نفسه فقده هو الباعث الذي بعثه للعمل ، فإن
تألمت نفسه لفقد الأجر والمثوبة فتلك نيته ، وإن تألمت لفقد شيء آخر ،
فهو نيته .
أو يتصور قيام غيره بالعمل - ممن هو كفؤ له - بنفس الكيفية ونفس
النتيجة ، فإن لم يغير ذلك في نفسه شيئا فهو مخلص ، وإن تعكر مزاجه
لاقتران العمل باسم غيره ، فليراجع إخلاصه .
وإذا كان العمل ينشر إلى الناس باسم صاحبه ، فليتصور نسبة العمل لغيره
، فإن عز في نفسه تجاهل اسمه فليعد النظر في نيته .
وهذه مجرد اقتراحات وجهة نظر قد تخطئ وقد تصيب .
أثر الإخلاص في الدعوة :
الإخلاص سبب مباشر وطريق موصل لنجاح دعوة الداعية ، وإتيانها الثمار
المطلوبة ، لما يورثه الإخلاص من راحة نفسية وقوة قلبية تعين صاحبها
على التخطيط السليم واجتياز مصاعب الدعوة ، وتحمل مشاق التبليغ .
نصر الله كل من دعا إلى الخير ، وأرشد إلى طريق الصلاح .
الإخلاص في الدعوة إلى الله
محمد بن سعيد المسقري
- التصنيف: تزكية النفس
الإخلاص في الدعوة : أهميته، ما يعين عليه ، ما ينافيه ، وآثاره على الداعية