تائب

ملفات متنوعة




لم يعد إلى منزله إلا بعد أنهك جسده، وتعبت أقدامه، وضاق صدره، فهو من قبل أن تغرب شمس هذا اليوم، يدور في الأسواق، وينتقل من سوق إلى سوق، بحثاً عن فريسة.. لم يكتف بذلك بل أبى أن ينهي ليلته حتى ذهب إلى أحد المقاهي مع بعض رفقته.. لايكاد أن يخرج الشيشة من فمه حتى يفري بلسانه في لحوم الناس، وهكذا ..
لم يذكر أنه في هذه الليلة دخل مسجداً أو صلى لله ركعة. عند منتصف الليل دخل المنزل خلسةً؛ لكيلا يتسبب في إزعاج من قد نام من أهل بيته، فتح باب غرفته، أفزعته ظلمتها.. أضاء أنوارها، نظر في ساعة الحائط وجدها تشير إلى الثالثة والنصف بعد منتصف الليل، افترش سجادته ليصلي المغرب والعشاء، بعد أن تذكر انه لم يصليها اليوم. لفت نظره منظر مكتبه المتراكم.. ففضل أن يرتب المكتب قبل أن يصلي..
وهكذا كان دائماً، يقدم مطالب نفسه على مطالب ربه، ألقى بنفسه على كرسيه، وأطلق ليديه العنان في ترتيب مكتبه "ااااااوه؟؟؟؟"
أصدر هذه الكلمة تعجباً حينما وقعت يده على تقويم للسنة الهجرية؛ فهو يذكر انه قد اشترى هذا التقويم في بداية السنة ليضعه على مكتبه.. ثم مرت الأيام وهو لم يفتحه أصلاً..
بقي قليلا من الوقت يمسح الغبار والأتربة من على تقويمه، ثم أخذ يقلّب أوراقه، محرم هذه أول ورقة في التقويم، نزعها وقرأ مابخلفها -وهو مدهوش من سرعة مرور الأيام- وبقي هكذا، ينزع الأوراق ورقة ورقة.. كلما نزع ورقة قرأ مابخلفها، فوقعت عينه على أحد الأوراق، مكتوب خلفها..

" من هرب من شيء تركه خلفه -إلا القبر- فما يهرب منه أحد إلا وجده أمامه "


مضى في نزع الأوراق وهو يفكر في الكلمة السابقة، وكأنه لم يعلم أن هناك قبراً إلا حينما قرأ هذه الورقة..

أصابه الملل من كثرة ماينزع من الأوراق، وأراد توقيت التقويم على تاريخ اليوم ولكنه لايعلم تاريخ اليوم..

فماذا يهمّه حتى يتابع التاريخ، فلا ترتيب لوقته، ولا برامج ولا خطط قام من على كرسيه، والتقط أحد الصحف المتناثرة في غرفته لينظر إلى تاريخ اليوم، أصبحت الصحيفة بين يديه.. لم يكد يصدق!!

أعاد النظر!!

هل هذه حقيقة؟؟

هل هذا صحيح ؟؟

هل أن فعلاً في آخر ليلة من هذه السنة؟ هل حقاً أن يوم غد هو آخر يوم في هذه السنة؟! هل.. وهل.. وهل..؟؟؟

مزّق الصحيفة، تناثرت قطعها من حوله..

وقف مذعوراً مستسلماً للأمر الواقع، استلقى على سريره.. ينظر إلى سقف غرفته.. شخص ببصره.. وكأنه فارق الحياة.. مرّت هذه السنة في خياله.. وكأنها لمحة بصر.. أو ومضة برق.. يتذكر فلا يخطر بباله.. إلا جلسات الفساد، والغزل، والعناء، وهلاك النفس في إغضاب الله وإرضاء الشيطان..

قام على عجل..فتح أدراج طاولته أخرج دفتر مذكراته.. فلم يكن يمر عليه يوم ..إلا ويكتب مايفعله فيه!! أخذ يقلّب صفحات دفتره.. ذُهل!! صباح هذا اليوم نوم عن صلاة الفجر والظهر والعصر في نهار رمضان!!

وهذه ليلة قضاها بين الأسواق يبحث عن فريسة!! وفي منتصف أحد الليالي عهر وفساد!!

هذا ما وجده في دفتر أيامه..

انفجـــــــــــــــــــــــــــر باكياً..
صرخ..
"لاإله إلا الله".. كم عصيت الله.. لم اذكر في أيامي أنني أرضيت الله سبحانه.. لم أعمل عملا له سبحانه.. صفحاتي لطختها المعاصي..

آآآآآآآآآآآآه..

لو كان هذا الدفتر هو صحيفتي..التي سيعطيني الله إياها يوم المحشر على روؤس الأشهاد.. { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ.فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً.وَيَصْلَى سَعِيراً }


آآآآآآآه للعار ..آآآآآآآه للفضيحة على رؤوس الأشهاد..آآآآآآآه لسواد الوجه وولوج النار..آآآآآآآه حينما يأمر الله الملائكة فيقول { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ.ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ.ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ }


آآآآآآآه إذا سُحبت على وجهي إلى النار..آآآآآآآه إذا شربنا من الحميم فسالت الأمعاء..آآآآآآآه وآآآآآآآه آآآآآآآه إذا صرت على فراش الموت.. إذا بردت القدمان.. وازرقّت الشفتان.. وشخصت العينان.. { وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ.وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ }..وليتها تقف هاهنا

ولكن المصيبة..{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ }

{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ }

{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ }

{ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى.وَلَـكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى }

آآآآآآآآآه إذا أصبحت على فراش الموت.. والأهل من حولك يبكون وينحبون خوف موتك.. وأنت تعلم أنك عاصي لله مفرط.. ماذا تتوقع؟؟

قام بعد أن بللت دموعه وسادته نزع أخر ورقه في تقويمه.. قلبها.. كان مكتوباً عليها:


كفــــى يـــا نفـس ماكانا........كفاك هوى وعصيانا
كفاك ففي الحشا صوت........مـــن الإشفـاق نادانا
أمــــا آن المـــتاب بلـى........بلـــى يــا نفس قد آنا
أمـــا آن المــــتاب بلـى........بلـــى يــا نفس قد آنا

قطع سكون ليله.. صوت المؤذن.. قرر أن يعود إلى الله.. اغتسل، وذهب للصلاة..
وقف خلف الإمام ودموعه لا تفارقه..


قرأ الإمام.. { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ }

وهو يردد.. بلى قد آن بلى قد آن..


أخي.. هاهي طويت صحيفة هذا العام.. وغربت شمسه.. ويذهب بما عملت..

ثم لن يفتح هذا الكتاب إلا بين يدي القهّار سبحانه.. فانظر ماذا عملت؟ هل يبيض وجهك فإلى جنة؟
أم يسود فإلى نار؟ والعياذ بالله..

وسارع في التوبة قبل أن تغرغر روحك ثم لا توبة..

المصدر: نقلا عن قائمة ذكريات