أول ليلة في القبر

الشيخ عائض بن عبد الله القرني

الحمد لله رب العالمين..
 
{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون }
 
{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير }.
 
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا. بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
 

فارقتُ موضعَ مرقدي يوماً ففارقني السكون *** القبرُ أولُ ليلةٍ بالله قلي ما يكون
 

ليلتانِ اثنتان يجعلها كلُ مسلمٍ في مخيلته.
 
ليلةٌ وهو في بيته مع أطفاله وأهله.
منعما سعيدا، في عيشٍ رغيد في صحة وعافية، يضاحكُ أطفاله ويضاحكونه.
 
والليلةُ التي تليها مباشرةً ليلةٌ أتاه الموت فوضع في القبر، أي ليلتين؟
 
ليلةٌ ثانيةٌ وضع في القبر لأولِ مرة، وذاك الشاعرُ العربيُ يقول:
 
فارقتُ موضعَ مرقدي يوماً ففارقني السكون، يقول:
انتقلتُ من مكانٍ إلى مكان، وذهبتُ من موضع نومي في بيتي إلى بيتٍ آخر فما أتاني النوم.
فبالله كيف تكونُ الليلةُ الأولى في القبر؟
 
يومَ يوضعُ الإنسانَ فريداً وحيداً مملقاً إلا من العمل، لا زوج ولا أطفال ولا أنيس.
 
{ ثم ردو إلى اللهِ مولاهم الحق، ألا لهُ الحكمُ وهو أسرع الحاسبين }.
 
أولُ ليلةٍ في القبر بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، ورثا إليها الشعراء، وصنفت فيها المصنفات.
  
أولُ ليلةٍ في القبر.
 
أُتيَ بأحد الصالحين وهو في سكراتِ الموت لدغته حية. وكان في سفر، نسي أن يودع أمه وأباه وأطفالهُ وإخوانه، فقال قصيدةً يلفظُها مع أنفاسه هيَ أم المراثي العربيةِ في الشعر العربي. يقولُ وهو يُزحفُ إلى القبر:
 

فلله دري يوم اُتركُ طائـعــــــاً  *** بنيَ بأعلى الرقمتينِ وداريا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني  *** و أين مكانُ البعد إلا مكانيا
 

 يقول كيف أفارقُ أطفالي في لحظة؟
لماذا لا أستأذنُ أبوي؟
أهكذا تُختلسُ الحياة، اهكذا أذهب؟
أهكذا أفقدُ كل ممتلكاتي ومقدراتي في لحظة؟
 
ويقولُ عن نفسه:
يقولُ لي أصحابي واللذينَ يتولونَ دفني، لا تبعد أي لا أبعدك الله.
وأين مكانُ البعد إلا هذا المكان؟
وأين الوحشةُ إلا هذا المنقلب؟
وأين المكان المظلم إلا هذا المكان؟
فهل تصورَ متصورٌ هذا؟
 
{ حتى إذا جاء أحدهم الموتُ قال ربي ارجعون لعلي أعمل صالحا في ماتركت، كلا إنها كلمة هو قائلها، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون }.
 
كلا، آلان تراجع حسابك، آلان تتوب، آلان تنتهي عن المعاصي.
يا مدبرا عن المساجد ماعرف الصلاة.
يا معرضا عن القرآن، يا متهتكا في حدود الله.
يا ناشئا في معاصي الله.
يا مقتحما لأسوار حرمها الله.
آلان تتوب، أين أنت قبل ذلك؟
 
فيا عباد الله، أسألُ الله لي ولكم الثبات، ما ذا أعددنا لضيافةِ تلك الليلة؟يقول رسولُنا صلى الله عليه وسلم: « القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حفرةٌ من حُفرُ النار ».
 
كان عثمانُ بنُ عفانُ الخليفةَ رضي الله عنه إذا شيعَ جنازةٍ بكى حتى يغمى عليه فيحملونَه إلى بيتهِ كالجنازة. قالوا مالك؟ قال سمعتُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يقول: « القبرُ أولُ منازلِ الآخرة فإذا نجا العبدُ فيه أفلح وسعُد، وإذا خسرَ والعياذُ بالله خسرَ آخرتَه كلها ».
  

والقبــرُ روضـةٌ من الجنـانِ *** أو حـفرةٌ من حُفــر النيــرانِ
إن يك خيراً فالذي من بعـده *** أفضــلُ عنــد ربنــا لعـبــــده
وإن يكن شراً فما بعدُ أشــد *** ويلٌ لعبدٍ عن سبيلِ اللهِ صـد
  

عباد الله:
 
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
وصلوا على أصحابه، وترضوا على أحبابه.
 
أسأل الله لي ولكم الضوان، والسعادة في الدنيا والآخرة.
أسال الله أن يصلح ولاة الأمر، وأن يهديهم سواء السبيل.
أسأل الله أن يصلح شباب الإسلام، وأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن يكفر عنهم سيأتهم.
وأن يهيئهم بعمل صالحا لأول ليلة من ليالي القبر.
أسأل أن يثبتَنا و إياكم بالقول الثابت. ولا يظلم أبصارنا وبصائرنا.
 
ولا يجعلنا قوماً انحرفوا عن منهجِ الله و اشتروا معاصِ الله، وغفلوا عن آياتِ الله، فعموا وصَموا وضلوا و ابتعدوا.
 
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.