قراءة أخرى لحادث الإسراء والمعراج

الشيخ محمد جلال القصاص

نحتاج اليوم من يتصدر لهذه الحالة من النقاش والجدل حول النصوص، وينادي في القوم ربكم أعلم وأحكم، وليس لكم إلا البحث عن صدق الخبر وصحة الدلالة. وإن في الإسراء لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

جيء بالبراق، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس فصلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السموات العلى، فدنى وتدلى وكان قاب قوسين أو أدنى، ورأى من آيات ربه الكبرى، ثم عاد إلى الناس يخبرهم بما كان من أمره، ولم يخش في الله لومة لائم، لم يخش من تكذيبهم وقد كان يتوقعه.

صدّق البعض ولم يتردد، وكذَّب البعض ولم يتردد، وطلب فريق الدليل على صدق الخبر، ورأى فريق أن في الأمر فرصة للتشهير بالنبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بالكذب فراح يُسوِّق الخبر بطريقته.

والحقيقة أن هذا هو حال الناس مع الوحي جملة مع أحكامه وأخباره. منهم من يصدق الخبر ثقة في المخبر، ويقتنع بالحكم ثقة في حِكمة المشرع جل وعلى، ومنهم من يعرض الخبر على عقله أو على رصيده المعرفي فإن اقتنع وإلا ردّه.
ومنهم المغرضون الذين لا هم لهم إلا صدِّ الناس عن دين الله، الذين ينتظرون فرصة ليشهروا بالدين والدعاة مع أنهم يعرفون ما في الدين من الخير {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14].

هي قضية كبرى، هي قضية أساسية محورية: ما هو المصدر اليقيني للمعرفة؟ من هو الذي نثق فيه ونأخذ منه العلم؟
أهو الوحي؟ أم هو العلم التجريبي؟ الحواس الخمس ؟. والشرع لا يتعارض أبدا مع العقل.

مما لا شك فيه أن الحواس لا تستطيع إدراك كل شيء على حقيقته، ومما لا شك فيه أيضا أن المعرفة التجريبية نسبية تتغير يوما بعد يوم تبعا لتطور وسائل البحث، فانظر إلى النظريات العلمية كيف أن نظريات اليوم تعدل نظريات الأمس، وكيف أن هذا الأمر في كل العلم التجريبي بلا استثناء. إذا كيف يثق المرء بهذا العقل العاجز المحدود؟ وكيف تنبني ثقة على من يتغير كلامه يوما بعد يوم؟

إن من كذَّب حادث الإسراء قاس الأمر على عقله وعلى ما لديه من معرفة تجريبية فقال: "نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ونعود شهرا وأنت تزعم أنك أتيتها وعدت في ليلة واحدة؟".
عرض الأمر على معلوماته الحسية الضئيلة فلم يستقيم الأمر عنده فرده بدعوى استحالة ورود المعنى الحقيقي.
إن العقل محدود التفكير ومحدود الوسائل، وإن الشرع من الله العليم الخبير القدير، فإن صح الخبر واستقامت الدلالة مع أساليب اللغة العربية فليس لنا إلا التصديق والإتباع، كما فعل الصديق رضي الله عنه حين سمع بخبر الإسراء والمعراج.

أذكر مرة كنت أتحدث مع زميل لي حول هذا السؤال: بم يفهم الإنسان؟ بقلبه أم بعقله؟
وكنت قد قرأت لأئمة أهل السنة والجماعة السابقين والمعاصرين أن المرء يفهم بقلبه وليس بعقله لصريح القرآن: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] ولصريح قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

فقلت: هو يفكر بقلبه وليس بعقله وإن كانت معلوماتي الطبية تضاد ذلك ثقةً في دلالة الخبر القرآني. وهو جزم بما درسناه بأن العقل في الرأس ثقة بأن الذي قال هذا هو العلم التجريبي المشاهد. واحتج علي بأنه تم نقل قلب هندوسي إلى مسلم فقام المسلم يصلي ولو كان الأمر كما تقول لقام يعظم البقرة.
ومن قريب سمعنا أن الطب اكتشف أن عملية التفكير تتم في القلب وليس في العقل. فكتبت إليه رسالة عنوانها هذه الآية {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:38].

ومن يتدبر حال من قالوا بنفي الصفات عن الله عز وجل، ونفي رؤية الله في الجنة، ومن يتدبر حال هؤلاء المُحدثين الذين يسمون بالمفكرين أو ما يسمون بالعقلانيين مع التحفظ الشديد على الإسم تجد أن لُبَّ المشكلة في قضية التسليم للخبر حين تتضح الدلالة، وأن العقول معظمة عند أصحابها لذا وطئ بعضهم النص بلا حياء ولا رهبة، وحمله البعض الآخر وصار به حيث يريد هو لا كما يريد النص.

إن المخلصين الأتقياء البررة يقولون بلسان حالهم ومقالهم أن صدق الخبر نستدل عليه من صدق المخبر، ومن هؤلاء أبي بكر، صدق لأن المتكلم هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا.
وهذا مسلك الصالحين: أخبرني من لا ينطق عن الهوى، أخبرني الصادق الأمين. وكون الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يحتاج لدليل يعضده. وإن تعارض مع كل عقل ونقل ولا يتعارض مع عقل صحيح ولا نقل صريح: {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ} [البقرة:140]؟ لا شك: الله أعلم.

ومن وجهة نظري أن الخلل هو في فقد التصور الكامل عن الله عز وجل والثواب والعقاب، خلل في توحيد الربوبية معرفة الله بأسمائه وصفاته أدى إلى نقص في توحيد العبادة الألوهية، ونفوس جهلت أو نسيت أنها موقوفة بين يدي الله عز وجل وأنها مسئولة ثم إلى نار أو إلى جنة.

لو أن النفوس تعلم ربها حق المعرفة، لوقفت حين تحتار في أمر الخبر وما جرأت على المساس بالنص فضلا عن المرور عليه أو حمله بتأويلات فاسدة، تماما كما فعل أبو بكر يوم الإسراء ويوم الحديبية حين علم بشروط الصلح. وكما فعل عمر يوم حاطب بن أبي بلتعة حين قيل له: "لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" َدمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ [البخاري: كتاب المغازي]

إن مشهد الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثهم عن الإسراء والمعراج، هو هو حالهم اليوم مع أحكام الشرع اليوم، بين مذعن مطيع يقول: "سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا"، ومناقش يبحث عن العلة كي يفهم الحكم.. إلخ.

نحتاج اليوم من يتصدر لهذه الحالة من النقاش والجدل حول النصوص، وينادي في القوم ربكم أعلم وأحكم، وليس لكم إلا البحث عن صدق الخبر وصحة الدلالة. وإن في الإسراء لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.


المصدر: خاص بطريق الإسلام