الحوار بين إظهار الحق والتفريط فيه

الشيخ ناصر بن سليمان العمر

وفي الختام لا نملك إلا أن نتوجه بالنصح لمن يتصدى للحوار كي لا يقع في حبال التنازلات، وليتذكر ما روي عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل_ رحمه الله_ يوم نصحه ناصح أن يقول بخلق القرآن مداراة بحجة أن الله _عز وجل_ يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}


لقد أرسى القرآن الكريم في كثير من آياته أسس الحوار ومبادئه مع كل أصناف البشر، سواء كانوا مسلمين أو مشركين أو أهل كتاب. والمتأمل لكتاب الله _عز وجل_ يجده مليئاً بالحجج التي حاور بها الكفار للدلالة على وحدانية الله_ عز وجل_ وعلى صدق النبي _صلى الله عليه وسلم_، كما يجده مليئاً بالردود على الشبه التي أثارها هؤلاء وأولئك لمعارضة ما جاء به النبي _عليه السلام_ من النور.


ولعل أول حوار على وجه الأرض لبيان الحق حوار ابني آدم. وليس الحوار أمراً جديداً في دعوة الأنبياء، فقد وقع منذ أرسل الله _عز وجل_ أول رسله إلى بني آدم بعد أن غيروا الملة الأولى ووقعوا في الشرك، فبعث الله إليهم نوحاً _عليه السلام_ فحاورهم على مر ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، حتى إن قومه لكثرة ما حاورهم وحاول إقناعهم ببطلان ما هم عليه قالوا له في نهاية المطاف: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:3]، وعلى دربه سار هود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم من أنبياء الله _عليهم السلام_، أما إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ فقد حاور أباه وحاور قومه وحاور النمرود وحاور ابنه إسماعيل _عليه السلام_، وموسى _صلى الله عليه وسلم_ حاور فرعون وحاور قومه، وحاور عيسى _عليه السلام_ بني إسرائيل وحاور الحواريين، أما نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ فسيرته مليئة بالحوار مع المشركين وأهل الكتاب والمنافقين بل مع الصحابة وأهل بيته الكرام وكل ذلك في القرآن مسطور.

والحوار ضرورة بشرية لا يستغني عنها مجتمع مهما صغر، فالرجل وزوجه يتحاوران، والأب مع ابنه يتحاوران، بل إن الإنسان لا غنى له عن الحوار مع نفسه التي بين جنبيه! ولئن كان الحوار مع أصناف المخالفين لدعوة الأنبياء منهجاً ربانياً، فإنه منضبط بضوابط ربانية لا يحق لأتباع الأنبياء الخروج عنها إن كانوا صادقين في دعوى الاتباع، وأول هذه الضوابط وأهمها على الإطلاق تحديد الهدف الرئيسي من الحوار، وليس هدفاً _عند أهل الحق_ أجل من الاجتماع على توحيد الحق، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، ثم يأتي بعد ذلك مبدأ عدم تمييع الحق أو المزج بينه وبين الباطل، كما قال سبحانه: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، وفي خطابه لأهل الكتاب قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71]، ولهذا أمر الله نبيه أن يعلنها صريحة في حواره مع الكافرين فقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1-6]، وذلك في مواجهة رغبة الكافرين {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].


ثم إن هذا الحوار لا يكون أبد الدهر مع المخالف المعين، لأنه عند أهل الحق ليس مطلوبا لذاته لكنه وسيلة لغاية، وهذا واضح جلي في آية آل عمران السابقة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، فإن تولوا فها هنا تكون المفاصلة، فنحن مسلمون فحسب، لسنا خليطاً من مسلمين ونصارى ويهود وبوذيين ومجوس، فلهؤلاء دينهم ولنا دين، ولئن جمعتنا البشرية والبلدان فقد فرقتنا العقائد والأديان، فنعطي لما جمعنا حقه، ونعطي لما فرقنا حقه كذلك، ومن أعظم ما يرسم معالم ذلك سورة الفرقان.


فعندما لا يصل الحوار إلى الغاية الربانية المرجوة منه فلا بد من الوضوح والخروج بموقف قوي وبيان ظاهر لا يحتمل التأويل كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:70-71]، وأيضاً: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:99]، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

لقد أرشد القرآن الكريم في غير آية إلى المجادلة والمحاورة بالتي هي أحسن وإلى إلانة القول حتى مع أشد الناس كفراً وعتواً؛ كفرعون الذي نازع الله _عز وجل_ الربوبية، قال الله_ سبحانه وتعالى_ لموسى وهارون _عليهما السلام_: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فمع أنه سبق في علم الله أنه لن يتذكر ولن يخشى لكنه سبحانه وتعالى يرشد المؤمنين إلى هذا المنهج الرباني، وبرغم هذا الإرشاد فإن إلانة القول لم تمنعهما_ عليهما السلام_ من الصدع بالحق وإن كان مُرّاً قاسياً على فرعون: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، ثم لمّا ظهر لهما فيما بعد عناده وتكذيبه لم يعد هناك وجه لإنة القول: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:101- 102] فهو يقول لفرعون: أنت تكذب في دعواك وأنا على يقين من هلاكك لعتوك وتكبرك وطغيانك. وهي سنة كونية لكل طاغ وظالم ومتكبر، ولذلك من كان كذلك فلا حوار معه بالحسنى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46].


ومع تقرير ما سبق من كون الحوار منهجاً ربانياً، إلا أنه من أخطر ما تواجهه الأمة في موضوع الحوار أن يُفرض عليها فرضاً ثم يتصدى له من أبنائها من يشعر بالضعف والعجز والهلع، فيدخل الحوار على خلفية ضعف الأمة وقلة حيلتها متلبساً بهزيمة نفسية، وقد وطن نفسه على القبول بما يجود به المحاور أو على التنازل؛ بدعوى المصلحة، أو الاعتدال، أو الوسطية وغير ذلك؛ ويغيب عن أذهان هؤلاء ما كان من بون شاسع بين استعلاء فرعون وجبروته وطغيانه، وضعف قوم موسى وذلتهم وقلة حيلتهم، وبرغم ذلك قال الله _عز وجل_ لموسى وهارون ومن معهما: {بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص/35]، قال ابن جرير_ رحمه الله_: "أي بحُجَّتِنا"، وهذه هي حقيقة الانتصار، فالانتصار هو انتصار المبادئ لا بقاء الأبدان والبلدان مع الذل والهوان، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].

فعلى أهل الحق أن يعتزوا به وليعلموا أنهم يأوون إلى ركن شديد، وأن ما يظهر من ضعف في الأمة مما يغري أعداءها بالحصول على تنازلات في جوانب شتى، وينبغي ألا تعني مظاهر الضعف هذه عند عقلاء بني الإسلام أن الأمة لا تملك من عناصر القوة ما تقوم به في وجه عدوها {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]، وهذا ما أدركه أعداؤها على أرض الواقع في ميادين الجهاد مما جعلهم يسعون للحوار بزخم غير مسبوق، وما ذاك إلا ليحصلوا في ميدان الحوار على ما عجزوا عنه في ميدان القتال.

وفي الختام لا نملك إلا أن نتوجه بالنصح لمن يتصدى للحوار كي لا يقع في حبال التنازلات، وليتذكر ما روي عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل_ رحمه الله_ يوم نصحه ناصح أن يقول بخلق القرآن مداراة بحجة أن الله _عز وجل_ يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] فأشار الإمام إلى الجموع الغفيرة التي تحمل الصحف والأقلام لتكتب عنه ما يقول ثم قال: أأضل هؤلاء كلهم؟!

نعم، فقد حمَّل الله _عز وجل_ العلماء أمانة عظيمة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وما دام الأمر كذلك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور:63].

وليجعلوا هذه الآية نصب أعينهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [آل عمران:159]، ومن أعظم ما بين الله في كتابه أصول الحوار، وأسلوبه، ومنهجه، وصدق حبيبنا _صلى الله عليه وسلم_ إذ قال: «قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هلك، من يعش منكم فيسرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ» [1]، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واستمسك بغرزهم إلى يوم الدين.

[1] حديث العرباض بن سارية رواه الإمام أحمد 4/126، وابن ماجة في سننه (43)، والحاكم في مستدركه (331)، وصححه جمع من أهل العلم.




أ.د. ناصر العمر







المصدر: موقع المسلم