رقمٌ مؤلم.. حيث تمزقت الأحلام إلى أشلاء.. وصدر حكم السفّاح بالإعدام!!

هداية

عندما كنت صغيراً كان جدي يعلمني العدّ، وقد علمني أنّ الأرقام تبدأ من: واحد، اثنان، ثلاثة، ...، ستة وأربعون، سبعة وأربعون، ثمانية وأربعون...

رقمٌ مؤلم.. حيث تمزقت الأحلام إلى أشلاء!!..
وصدر حكم السفّاح بالإعدام!!

 

عندما كنت صغيراً كان جدي يعلمني العدّ، وقد علمني أنّ الأرقام تبدأ من: واحد، اثنان، ثلاثة، ...، ستة وأربعون، سبعة وأربعون، ثمانية وأربعون...، ...
ولكنه كان عندما يصل إلى هذا الحدّ من العدّ يقف!! وكنت أظن أن الأرقام هنا تنتهي...
في كل مرةٍ يتجدد هذا الحال، وكنت أسأل نفسي: لماذا يا ترى تخنق جدي العبرات...؟!! وتفيض عيناه بالدمعات...؟!! وتتوقف على باب فيه الكلمات، عندما يصل إلى الرقم... (48)؟!!

لم أعلم أنّ لهذا الرقم في تاريخ جدي... ذكريات!!!

ذكرياتٌ مؤلمةٌ حدثني جدي عنها وهو يمسك بيدي ويشدّ عليها بقوة ليعلمني منهج التمسك بكل ما هو غالٍ...
حدثني ونحن نتجول بين أزّقة المخيم الضيّقة والتي زُيّنت جدرانها بذات الرقم... (48)!!!!

كان ثمة سؤال يتردد على خاطري، ما بال الجميع وهذا الرقم، أهو عنوان المخيم كي لا يضيع... كما ضاع الوطن؟!!!


حَدَّثني جدي عن الحقيقة المؤلمة بآلامها وآمالها... بعدما فاضت عيناي بالأسئلة الباحثة عن عالم مليء بالأجوبة...


قال لي: بني.. صغيري..

تطيرُ العصافير إلى بلاد الدنيا... تجمع أقواتها... تَسْبَح بين الزهور.. تمرح وتداعب قطرات الندى فوق الشجر الأخضر...
تطير في أعالي السماء وتستصغر الجبال الشماء... تَسْبَح في سهولة السهول، لكنها يا ولدي في نهاية النهار تعود إلى وطنها تجمع بعض القشّ.. وتبني العش.. وتركد فوق صغارها.. وتغمض جفنها، قائلة: جميلة هي الدنيا لكنك يا وطني... أجمل!!!!

حفيديَ الصغير..
هذا الطائر يَسْبَح في متع الدنيا وملذاتها لكنه يحن إلى وطنه آخر النهار.. ويعود.. فكيف بمن حُرم الدنيا ونعيمها... وحُرم الوطن!!!!!
حُرم الأمان وحُرم السكن...

كنّا يا ولدي كما العصافير نصول ونجول بين الربوع الخضر.. لكنها الغربان يا ولدي،، ما راق لها النعيم حتى اغتالت النهار، فأصبح كل شيءٍ شاحب الوجه حزيناً...

في ذاك العام... (48)، تمزقت الأحلام إلى أشلاء.. تغيرت الدنيا.. أصبح الوطن غير الوطن، والسكن غير السكن، وصدر حكم الإعدام...

- على من يا جدي؟

- على الشجر.. على الحجر.. على المسجد... على العصافير الصغيرة التي تنتظر عودة والديها مليئة أفواههما بالحياة..
أصدروا الإعدام حتى على... حصاننا الأصيل ليغتالوا الأصالة من جذورها!!!!

- ومن يا جدي أصدر حكم الإعدام؟

- الحاقدين... الذين أسكنونا المخيم وسرقوا كل فلسطين...

- وأين بقية الناس؟!!!

- إنهم مثلنا في مخيمات اللجوء يملؤهم الحنين...
إلى أم خالد وصفد وبيسان... وتل الربيع وعكا وعسقلان...
إنهم على شاطئ البحر في مخيم... وعلى النهر البارد في مخيمٍ آخر..
على أنقاض ذكرى اليرموك أقاموا مخيماً... وعلى عين الماء ونور الشمس بنوا مخيماً... وعلى كل أنقاض الذكريات الحزينة شيدوا مخيماً...

...

- حَدِّثْني يا جدي عن الوطن السليب أكثر...

- ماذا يا ولدي أقول؟!!
ماذا أقول والجرح لا زال ينزف على تلك الأيام التي أراها بعينيَ الآن...
آآآآهٍ يا فلسطين ما أغلاك، فلطالما جلست أنا ومختار قريتنا تحت شجرة الجوز التي كانت تفيض علينا بزخاتٍ من الحب دون أن نطلب منها، فيتجمع الصغار حولنا لينالوا نصيبهم...
ووقت الحصاد يا ولدي وقت الحصاد... ما أجمل ذاك اليوم الذي كنّا نتجمّع فيه نساءً ورجالاً نحصد الأرض.. ونطعم مسكيناً.. ونمسح به دمعة يتيم... نلتف جميعنا حول مائدة البركة والزيت والزعتر...
وإذا هلّ علينا الشتاء وفاضت السماء بالماء... تجمّعنا حول كانون الحطب.. نشعل ناراً تُدفئ قلوبنا وتملؤها سكينة وسعادة، توحّدنا الضحكات، وحواديت الكبار عن الشاطر حسن والعنزة وأطفالها الصغار... 

- آه يا ولدي لماذا فتحت الجرح؟

- وهل تتذكر كل شيء يا جدي؟

- وهل أنسى يا ولدي حتى أتذكر؟
أأنسى عبق التراب وريح الأرض، وزقزقة البلابل فوق أغصان الشجر..
من منا ينسى يا بني.. من منا ينسى الوطن!!!

...
...

وبعد طول مسير بين ثنايا المخيم البائسة وصلنا بيتنا الممزق الذي زيّناه أنا وإخوتي وجدّي بأسماء البلاد الحبيبة السليبة.. رسمنا على جدرانه كل الوطن... جلسنا في إحدى الزوايا أنا وجدي وقد سألته عن ذاك الصندوق الذي فُتحتْ عيناي عليه منذ الصغر.. ما هذا الصندوق يا جدي؟ أهو أيضاً من الوطن؟؟؟

 

أجاب: تعال وانظر يا ولدي... هذا مفتاح بيتنا الذي أغْلَقْتُه بيدِي، ووَعَدتُّه أني لن أطيل الغياب، لكن الغياب طال... خذه يا ولدي لتعود به وتفتح كل الأبواب، وتدع الشمس تدخل البيت دون استئذان على أزقة عُشّنا وتذيب كل العفن...

وهذا منجل الحصاد يا ولدي خذه.. واحصد به كل ما يعترض طريقك من أشواك... وذكريات أساءت إلى الحقيقة...

- وهذه الأوراق الصفراء يا جدي؟

- إنه القوشان... قوشان الدار.. خذه.. وإن حاجّك أحد في حقك قل له: هذه الأوراق الصفراء ورثتها عن جدي، مكتوب عليها:
"أنا من فلسطين.. وفلسطين مني.. وإنِ اصفرت الأوراق فلن تَسْقط.. ولو سقطتُ أنا.."


- ولمن هذه البندقية يا جدي؟

- إنها لوالدك الذي مات شهيداً هناك تحت شجرة الليمون العطشى ليسقيها من دمه..

وبقي هناك..

عادت البندقية.. ولم يعد البطل...


لم يعد البطل.. وحتى جدّي لم يعد..

مات جدّي.. نعم مات جدّي حباً وشوقاً للوطن...

مات جدّي وقد علّمني دروساً عظيمة..


علّمني.. إن كان في البحر مدّ وجزر فإن حب الوطن مدّ لا جزر فيه..


علّمني أيضاً... أنهُ وُلد حُرّاً.. ومات لاجئاً.. لكنّي ولدتُ لاجئاً ولن أموت إلا حراً طليقاً عائداً للوطن...


مات جدّي وقد وصاني أن أُحلّق فوق فلسطين، وآخذ حفنة من التراب الجريح، وأضمّها إلى صدري طائرةً بها فوق القبور وقبر جدي في المخيم، وأنثر التراب عليها لينبت على القبور وردٌ مكتوبٌ على أوراقه..

 

إنا عائدون لكل الديار... عائدون للوطن...

 

التوقيع: لاجئ من فلسطين... عائد إلى فلسطين بإذن الله..


بقلم وريشة: هداية

 

<