قواعد هامة لمنع تزييف التاريخ

الشيخ سعيد عبد العظيم

تزييف وعي الأمة، سبيل من سبل إبعادها عن دين ربها، وهو أحياناً يحدث عن عمد وسبق إصرار وترصد، ومع فقدان البصيرة تزداد معالم الغربة، وقد أصبح التاريخ والحديث عنه من أهم أسباب هذا التزييف..



تزييف وعي الأمة، سبيل من سبل إبعادها عن دين ربها، وهو أحياناً يحدث عن عمد وسبق إصرار وترصد، ومع فقدان البصيرة تزداد معالم الغربة، وقد أصبح التاريخ والحديث عنه من أهم أسباب هذا التزييف، وكما أطلق على هذه المنطقة، والتي هي منبع الرسالة، اسم منطقة الشرق الأوسط- أي بالنسبة لأوروبا- وعلى دولها اسم الدول النامية - أي المتخلفة- أو دول العالم الثالث، فزيّفوا بذلك معاني الجغرافيا، وإلا فهذه المنطقة في قلب الدنيا { لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [الشورى: 7].
كما وأنهم زيفوا معاني التاريخ، فقسموه إلى تاريخ قديم ووسيط وحديث، ووصفوا القرون الوسطى بالقرون المظلمة!! وهذا التقسيم إن كان يصلح فهو يصلح مع أوروبا، ولا يصلح مع المسلمين بحال، فالقرون الوسطى والتي كانت مظلمة بالنسبة لهم كانت عندنا قروناً شاعت فيها الهداية والنور، وبعث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين.


والتاريخ شأنه كشأن غيره، يتناوله الغالي والجافي، ومسائله قد تدور بين إفراط وتفريط، فالتفسير الماركسي المادي للتاريخ يعتبر المادة هي أصل الكون، وأن الإنسان قد نشأ منها بالتطور والارتقاء، وأن الطبيعة - وهي الإله عند الشيوعيين - هي التي أنشأته، وأن وسائل الإنتاج هي سبب التطور، وهي التي تحدد نوع العلاقات الاقتصادية، وهي التي تحتم نوع العلاقات الاجتماعية والعقائدية والمذاهب الأخلاقية، بل الحياة العلمية والفكرية والروحية بكاملها، وهكذا يبلغ الغلو مداه، ولذلك لا عجب أن تنكسر الشيوعية، ويضمحل تفسيرها للتاريخ، وعلينا أن نجاهد للإجهاز على طغيانها المادي الذي فرضه البعض على الواقع، وبمقتضاه فسروا التاريخ الإسلامي تفسيرًا ماديا أو قوميًّا أو علمانيًّا.


لقد بلغ من أثر هذه اللوثة أن بعض الكتاب المتأثرين بهذا الفكر قال بتطور العقيدة، وأن العقيدة تطورت من عبادة الوثن والصنم والطوطم..إلى عبادة الله الواحد!! وذكر البعض أن إخناتون هو أول من دعا بالتوحيد!! وتناسى هؤلاء أن البشرية بدأت بنبي الله أدم - نبي مكلم - أي بمرتبة هي من أعلى مراتب الهداية، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون- كلها على التوحيد الخالص كما قال ابن عباس - رضى الله عنهما - ثم طرأ الشرك في قوم نوح { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح: 16].وقد آلت نظرية النشوء والارتقاء إلى الاندثار غير مأسوف عليها وعلى أصحابها.


نحن بحاجة لضبط التاريخ ومفرداته بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا هو المقياس والميزان، الذي رضيه لنا ربنا، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نحرص على موافقته، لا على مسايرة أحداث التاريخ كما يدعو البعض ونحذر مصادمة الإسلام، وإنِ اتهمنا فريق بأننا نصادم حركة التاريخ، ونخلص العبودية لله وحده، لا لله وللتاريخ كما يعبر البعض.


وكما نحتاج لضبط المعاني الإجمالية والمناهج التاريخية؛ كذلك لا بد من تمحيص للتفاصيل حتى لا نكون أشبه بحاطب ليل، وخصوصاً مع كثرة الكتابات التاريخية الفارغة والتي ليس لله فيها نصيب، ومحاولة إضفاء الهالة والبريق على ما يسمى بزعامات تاريخية، قد ينبهر بها الناس ويقتدون بها على حساب منهج الأنبياء والمرسلين، فهذا وطني، والثاني قومي، والثالث اشتراكي... وكلهم لا يعظم لله شرعاً.
وكما لا ينبغي أن ننبهر بالساقطين، كذلك ما يزعمه البعض عن الثوابت التاريخية، قد تكون معاني عارية عن الصحة تماماً، فالبعض اعتبر صلب المسيح من الثوابت التاريخية، قال - تعالى -: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ } [النساء: 157]. { بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 158]، وبيَّن - سبحانه - اضطراب أوائلهم بشأنه: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [النساء: 157].


لقد رُفِعَ المسيح إلى السماء الثانية وأُلقي شبهه على يهوذا الخائن، أخذوه فقتلوه، ولذلك اضطربوا وقالوا: إن كان صاحبنا قتل فأين المسيح، وإن كان المسيح قتل فأين صاحبنا؟!
واليهود اليوم عندما يغتصبون أرض فلسطين يزعمون أنها أرض الميعاد، وأنها حق تاريخي ثابت، وهي دعوة عريضة لا بد من إقامة البرهان عليها، وإلا فكل أرض علاها حكم الله، لا بد من استعادتها لحوزة الإسلام والمسلمين... كذلك فهم ينتظرون المسيح، ومسيحهم هو الدجال، وستكون هلكته على يَدَي مسيح الهدى - كما ورد في أخبار الساعة -.


لقد استخدم التاريخ في أبعاد الدنيا عن دين ربها، بل وتفريق هذه الأمة بحضارات زائفة بائدة عفنة فرعونية وآشورية وبابلية وفينيقية... صارت هي البديل عن إسلام الوجه لله - تعالى -: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ } [ آل عمران: 19]، { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران: 85].
وفي المقابل تم تشويه تاريخ الصحابة والخلافة الإسلامية، حتى يقطعوا الصلة بيننا وبين إسلامنا، ونخجل من المطالبة بتطبيق شرع الله، ونترك العمل لإقامة خلافة على منهاج النبوة.


لهذا وغيره لابد من وقفة شرعية تجاه هذا الطغيان المادي الذي لحق بالتاريخ، وأن تتضافر الجهود لمنع تزييف الوعي، وأن تستخدم جميع وسائل التعليم والإعلام لكشف هذا الدس وهذا التشويه التاريخي؛ ليحيى من حييَّ عن بينة، ويهلك من هلك أيضًا عن بينة.



قواعد هامة:


وبما أن دراسة التاريخ في حس المسلم مرتبطة بعقيدته، والتاريخ أداة من أدواته في الدعوة إلى الله، وتحقيق عبوديته بإقامة منهجه وتحكيم شريعته؛ فإنه يتوجب عليه ملاحظة بعض القواعد في أسلوب الكتابة وطريقة العرض ومنها:
• جعل العقيدة الإسلامية المحور الأساسي في عرضه:
فإن البشرية على طول تاريخها كلما فاءت إلى هذه العقيدة وتمسكت بها حصل لها السعادة والتمكين في الأرض، وكلما بعدت عنها أصيبت بالأمراض الاجتماعية والخلقية، وفشا فيها الظلم والجور، وسلط عليها الأعداء.
 


• المحافظة على الوقائع التاريخية الصحيحة:


المحافظة على الوقائع التاريخية الصحيحة والتركيز على التصورات الإسلامية الصحيحة أثناء العرض الموضوعي للحادثة التاريخية، مع ملاحظة المحافظة على الوقائع التاريخية وعدم الإخلال بها؛ وعرضها كما جاءت في مصادرها الصحيحة.



• التركيز على الأهداف والغايات.

فالمؤمن له في الحياة هدف وغاية عليا يسعى دائماً لتحقيقها، وهي: عبادة الله وحده، وعند دراسته لحقبة معينة من الزمن أو حادثة من الحوادث فإنه لا ينظر إلى هذه الدراسة إلا كوسيلة من الوسائل للوصول إلى الغاية العليا، فلا ينفق كل جهده في الوسيلة ويترك الغاية، ولذلك ينبغي أن لا تشغلنا الدقائق التفصيلية في حوادث التاريخ عن العبرة من الحدث، والرؤية الشاملة له، وعن الاعتبار الذي يترك في النفس أثراً، وإنفاق الوقت والجهد في البحث عن أمور لا طائل تحتها ولا عود على البحث بفائدة وليست من هدف المسلم ولا غايته في الحياة، إلا أن يكون البحث في التفصيلات متعلق به مقصد شرعي؛ فلا بأس حينئذ من البحث ومحاولة إثباته.
وفي القرآن الكريم دلالة على هذا المقصود، فضرب الصفح عن ذكر اسم صاحب يس وبلده واسم أبيه، وكذلك مؤمن آل فرعون، وعدد أهل الكهف ولون كلبهم، فالناس عادة يتعلقون بالأمور الجانبية التي لا فائدة ترجى من وراء معرفتها؛ ويختلفون في ذلك، ثم يخوضون بالجدل فيه بغير علم ويتركون المقاصد والأمور المهمة؛ وهي أخذ العبرة من وراء سياق القصة.
 


• أن يكون العرض موحياً بتحبيب الخير وتبغيض الشر:


فالمؤرخ صاحب رسالة وحامل مشعل هداية للبشرية، وميزانه في معرفة الخير والشر ليس عرف الناس ولا ما تواضع عليه أهل زمن، أو قررته هيئة من الهيئات، أو زعيم من الزعماء؛ إنما ميزانه هو شرع الله، ولذلك فالمؤرخ في دراسته يجب عليه أن يفحص ويدقق وينقد المصادر والمراجع ويتثبت غاية التثبت، وأن يعرض الأحداث بأمانة وصدق، ثم عليه أن لا يظهر الباطل بمظهر الحق ولا يظهر الشر بمظهر الخير، إنما يسمي الأشياء باسمها، فالحق حق مهما كان فاعله، والباطل باطل مهما كان قائله، والميزان هو شرع الله، وهذا من أعظم غايات دراسة التاريخ وثمراته.



• إبراز دور الأنبياء.

كما أن على المؤرخ أن يبرز دور الأنبياء وأثرهم في تاريخ البشرية، وكيف جاءوا بعقيدة واحدة؛ وهي إفراد الله بالعبادة، والاستسلام له بالطاعة، والتبرؤ من الشرك وأهله وتوضيح أن الإسلام هو دين الأولين والآخرين: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. وتبيين أن التاريخ البشري كله يمثل صراعاً بين الحق والباطل والإيمان والكفر، ودور الأنبياء وأتباعهم يمثل في تاريخ البشرية كلها خطًّا مستقيماً ومرتبطاً بعضه مع بعض من آدم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتقف بإزائه الجاهليات على تعدد أنواعها واختلاف عصورها، فالجاهليات تشكل أمة واحدة وحزبًا واحداً، في مقابل أمة الإسلام ودعوة الحق وحزب الرحمن واتباع الرسل والأنبياء، وما من فترة سيطرت فيها الجاهليات إلا وأصيبت البشرية بالشقاء والتعاسة وسادها الظلم، ولا أظلم من الشرك بالله.


• تحري استعمال المصطلحات الإسلامية.


وتجنب المصطلحات الدخيلة؛ مثل: الوحدة العالمية، والإخاء الإنساني، والتعاون الدولي، والسلام العالمي، وزمالة الأديان، والحرية، والمساواة، والتقارب بين المؤمنين بالله في مواجهة الإلحاد والشيوعية، وأن نعلم أنه لا التقاء بين الحق والباطل، ولا بين الهدى والضلال؛ فالديمقراطية والاشتراكية والثيوقراطية والدكتاتورية والإمبراطورية واليمين واليسار والمحافظين والليبرالي والإمبريالي والأحرار والأرستقراطية؛ كلها مصطلحات أوروبية ذات مضامين ودلالات محلية وتاريخية، ولا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي، والظروف التاريخية والثقافية التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك، وأن كل كلمة لها معنى ورصيد عند أهلها، ولا بد من ضبط اللفظ والمعنى بما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يصح الترويج لها في بلاد المسلمين ولا إضافة الإسلام إليها، كقولهم الديمقراطية الإسلامية ـ فهذا مما يروج للفظ الديمقراطية "بمضمونه عند أهله"، ويحببها للنفوس مع ما تحمله من خراب ودمار.



• الابتعاد عن أسلوب التعميم قبل حصول الاستقراء.


فمثلاً لا يصح أن نقول: إن أهل المدينة كلهم تخاذلوا عن نصرة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أو رغبوا في قتله، كما لا يجوز أن نأتي إلى مجتمع من المجتمعات أو عصر من العصور فنحكم على أخلاق أهله من خلال شعر اثنين أو ثلاثة أو حتى مائة من الشعراء الماجنين فنقول: إن هذا العصر عصر مجون وتهتك وخلاعة، أو أن نصف أسرة كأسرة بني أمية بأنها كلها ظالمة. أو نقول: إن فرقة المرجئة أو المعتزلة كلهم زنادقة ومنافقون؛ لأن كل طائفة لا تخلو من بعض الخيرين أو العوام أو المجتهدين المتأولين، غير أن الحكم يكون للغالب، فلا شك أن كتابة التاريخ أمانة، ولا بد في ذلك من المحافظة على هذه القاعد؛ لمنع تزييف الوعي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

19/07/2004 م