الفضائيات الإسلامية ودعوة المساجد.. تكامل أم تضارب؟!

ملفات متنوعة

لا يخفى على أحد ما للمسجد من مكانة سامقة بين المسلمين، وقد كان ولا يزال محضنًا تربويًا حيويًا، ومنبرًا لتوجيه المسلمين وتعليمهم أمور دينهم، كامتداد لدوره العظيم أيام الصدر الأول في الإسلام..


لا يخفى على أحد ما للمسجد من مكانة سامقة بين المسلمين، وقد كان ولا يزال محضنًا تربويًا حيويًا، ومنبرًا لتوجيه المسلمين وتعليمهم أمور دينهم، كامتداد لدوره العظيم أيام الصدر الأول في الإسلام.

وقد نجحت دعوة المساجد إلى حد بعيد بربط الناس بتعاليم دينهم، إلا أنه وسط هذا الطوفان الإعلامي الذي هيمن على أبواقه الغرب والعلمانيون، كانت الحاجة إلى تيار مضاد يتمثل في إعلام إسلامي هادف، يطرح نفسه كبديل يوجه ثقافات الناس، من خلال مواد تصلهم في عقر دارهم دون أدنى عناء.

بيد أنه في الآونة الأخيرة قد طفق بعض المصلحين ينظر إلى الفضائيات الإسلامية في توتر قد أفرزته رؤية تحليلية تجاه انحسار التوافد على دروس العلم في المساجد، وعزو ذلك إلى اكتفاء المشاهد بمواد الفضائيات الإسلامية، والتي يتولى عرضها كثير من العلماء والدعاة المشاهير، مما يحدث نوعًا من الإشباع لدى المشاهد، فلا يرى أن هناك حاجة ماسة للارتباط بدروس المساجد- من وجهة نظر هؤلاء المصلحين- فمن هنا تقلص دور المسجد في تعليم وتوجيه الناس.
 


شهادة على لسان الواقع:
وكخطوة أولية تسبق الشروع في التحليل الموضوعي لهذه النظرة تجاه الفضائيات الإسلامية ومدى تأثيرها على دعوة المساجد، نلقي نظرة سريعة على حصاد الدعوة الإسلامية من ذلك الحقل الإسلامي الهادف من خلال هذه الإشارات:

1- وصول الدعوة إلى جميع شرائح وقطاعات المجتمعات الإسلامية والتي لا يتسنى للمسجد استيعابها جميعًا، وعلى وجه الخصوص: الطبقات الأرستقراطية التي يندر من يتوجه إليها من الدعاة بالخطاب، مع أنها شريحة حيوية ينبغي اختراق سياجها، نظرًا لما يترتب على استجابة المنتمين إليها من فوائد للدعوة، لما لديهم من أدوات التأثير.

2- هدم الحواجز بين الجماهير وبين دعاة أهل السنة، والتي صنعها العلمانيون بما يروجونه من اختلاقات باطلة من خلال الآلة الإعلامية الضخمة، التي تعمدت تنفير الناس من الدعاة، فإدمان رؤية الناس مشاهدة الدعاة وسمتهم المعبر وحرصهم على إفادة الجماهير، ينفي ما يشاع عنهم من أباطيل، وبالتالي يفتح الطريق إلى أفئدة تلك الجماهير لتصلها دعوة الحق.

3- وصول العلم إلى البلدان الإسلامية التي لا تتنفس الدعوة في أجوائها، فهناك بعض البلدان الإسلامية يمنع الدعاة فيها من إقامة الدروس العلمية في المساجد وغيرها، ومن ثم يعيش أهل هذه البلدان في ظلمات من الجهل بأحكام دينهم، فجاءت هذه الفضائيات ليتلقى عبرها المشاهد المحروم ما يزيل عنه جهله.



4- وصول الدعوة إلى غير المسلمين، فمن غير الإنصاف أن ننظر إلى الشعوب غير الإسلامية إلى أنهم يعرفون حقيقة الإسلام ومع ذلك يسيرون جنبًا إلى جنب مع زعمائهم في خوض الصراع العقدي ضد الإسلام.

فكثير منهم لا ينظر إلى الإسلام إلا من خلال عين النخب السياسية والدينية التي صورت لهم الإسلام على أنه دين همجي، وأن بنيه سفاكو دماء، قد تجردوا من كل القيم الإنسانية، ومن خلال الفضائيات الإسلامية صار الطريق مفتوحًا لكي يتعرف هؤلاء القوم على الإسلام وتعاليمه السمحة، مما يحفزهم إلى اعتناقه، أو على الأقل تحييدهم في الصراع المحتدم.

ولا شك أن دعوة غير المسلمين عبر الفضائيات تتكامل مع الدعوة عبر المراكز الإسلامية والقوافل الدعوية والجهود الفردية في تلك البلاد، بما للفضائيات من مزية التغطية الجغرافية الواسعة، ولا ريب أن هذا الأثر للفضائيات هو عين ما تقتضيه عالمية الدعوة، والتي هي من أجل خصائصها.



5- خلق وعي إسلامي عام بالأخطار التي تحيق بالأمة كالخطر الشيعي والعلماني والصهيوني...، مما يعد تعبئة فكرية عامة للمسلمين تقرب من وجهة أنظارهم تجاه القضايا العظيمة، وهذا من وجهة نظري خطوة واسعة على طريق النهضة الشاملة للأمة.

6- سرعة إبداء النظرة الإسلامية تجاه النوازل والمستجدات والأزمات، والتي كان تحتاج من قبل فترة من الزمن لكي تصل إلى جماهير الأمة، مما كان يعرض الفكر الإسلامي لخطر المبادرة غير الإسلامية في العرض والتحليل.

7- تعايش الدعاة مع واقع الناس وتقديم حلول عملية، وذلك من خلال البرامج التي تتناول القضايا الاجتماعية، وهذا ما تفتقده كثير من الدعوات التي نأت بنفسها عن واقع الناس.

8- إعداد الكوادر الإعلامية من خلال ممارسة العمل عبر الفضائيات، وهو ما يعد ضرورة نهضوية، لما يتمتع به الحقل الإعلامي من اتساع لدائرة التأثير وتوجيه الرأي العام.

وطرح هذه الإشارات لا ينفي وجود غيرها، لكن ما ذكر هو أهمها- من وجهة نظري- اكتفيت به تجنبًا للإطالة.



وفي المقابل لا ننفي أن تكون هناك سلبيات ونواحي قصور في هذا المجال، كالتضارب بين خطابات الدعاة والتي توقع المشاهد في الحيرة، وعدم تقدير بعض الدعاة لأصول الخطاب العام الذي يتوجه به إلى الأمة، ووقوع القنوات الإسلامية تحت طائلة الضغوط والقيود من قبل الحكومات سواء في المادة أو الوجوه التي تظهر على القنوات...، وغير ذلك مما هو غير خاف.



وحتى لو صح رصد تلك الظاهرة (تقلص أعداد الوافدين على الدروس العلمية في المساجد)، فإننا لا نتيقن صحة عزوها للقنوات الفضائية، ولكننا نستطيع- بيقين- إنكار القول بتعارض الفضائيات الإسلامية مع الدعوة في المساجد، وأرى أن هذا التوهم قد يزول لو وضعنا هذه الاعتبارات في الحسبان:

الاعتبار الأول:
تلك الأرضية التي تكونها دعوة الفضائيات لدى المشاهد، سواء كانت من ناحية هزة الفطرة الإنسانية بالخطاب الإيماني، أو من ناحية الثقافة الإسلامية التي تتكون لدى المشاهد في الفقه وأمور العقيدة..، ونحو ذلك، ولا ريب أن هذه أرضية صالحة لكي ينطلق منها الدعاة في المساجد، ويبنون عليها جهودهم، مما يوفر على الداعية الجهد والوقت بلا شك.

الاعتبار الثاني:
أن هناك جانبًا من الأنشطة العلمية يمارس في المسجد لا أعتقد أن الفضائيات تفي بالحاجة إليه، وهو ما يحتاجه طلبة العلم من شروحات المتون، والتوسع بصفة عامة في العلوم الشرعية، ومن ثم ينتفي التعارض بالنظر إلى هذا الجانب.

الاعتبار الثالث:
أن ارتباط المشاهدين بأهل الخير من الدعاة والعلماء على الفضائيات يقرب هؤلاء المشاهدين أكثر وأكثر من المساجد، فبالتالي يجد الدعاة فرصة طيبة للدعوة الفردية والتربية عبرها، من خلال حضور الناس الجمع والجماعات، فمما لا شك فيه أن الدعوة الفردية يعول عليها بشكل كبير خاصة في المناخ الذي يصعب فيه الخطاب الجماهيري.
 


نحو نظرة دعوية راشدة:
إن على القائمين بالدعوة في المساجد أن ينظروا إلى دعوتهم تلك نظرة متزنة، فلا يستطيع أحد على الإطلاق أن ينكر أثرها الفعال، ولكن في المقابل لن تفي الدعوة في المساجد بحاجة الأمة، فليس مقبولًا أن يوجه أهل الفساد الرأي العام من خلال المنابر الإعلامية التي يخاطبون عبرها الملايين ثم ننشد التكافؤ معهم من خلال دعوة المساجد، فينبغي النظر إليها وإلى غيرها من الميادين الدعوية على أنها تكامل للجهود.

وعلى هؤلاء الدعاة كذلك إدراك أن الدعوة في المساجد لا ينبغي أن تقتصر على تخريج النخب العلمية، فمع أنه أمر حيوي ومطلوب إلا أن هذه القطاعات العريضة من الجماهير لا بد وأن تنال قسطًا كافيًا من العلم الشرعي الذي تصح به عقيدتهم وعباداتهم وسلوكياتهم، فمن ثم لا بد من رفع كفاءة الخطاب العام في المساجد، بالتوازي مع استيعاب طلبة العلم الشرعي، فلماذا لا يتهم الدعاة أنفسهم بالتقصير في الخطاب العام قبل إلقاء اللوم على الفضائيات؟



فمن المشاهد على أرض الواقع أن هناك بعض الدعوات لا تتوجه بالخطاب إلا إلى طلبة العلم دون الاكتراث بعامة الناس، بل بعضهم يجعل من خطبة الجمعة ميدانًا ينطلق فيه لسانه بالكلام عن الجماعات الدعوية الأخرى من أهل السنة، وعن العمل الجماعي...، وعن أمور لن تفيد الجمهور بشيء، وكأنه قد قدّر على الإسلاميين أن يخاطبوا أنفسهم لا يخرجون من هذه الدائرة إلى عموم الناس.

ثم عليهم أخيرًا تجنب هذه النظرة المتشككة لكل من ينتصب للدعوة عبر الفضائيات، من القول بلزوم تقديم تنازلات في مقابل السماح لهم باختراق هذا المجال، فالذي يعنينا مضمون الخطاب ومدى انضباطه بمعايير الشرع وعدم تجاوز أطره، حتى وإن لم يسمح لهم بالخوض في بعض المسائل، حتى ولو كان السماح لهم بالظهور يعد جزءًا من لعبة التوازنات، حتى ولو كان هناك التقاء مصالح بينهم وبين الأنظمة، كل ذلك لا يسوغ التشكك في هؤلاء الدعاة الذين خرجوا من حيز جدران المسجد إلى العالمية، تاركين غيرهم من الدعاة يكملون المسيرة في دعوة المساجد لتصبح هناك منظومة دعوية متكاملة.

 


المصدر: عادل مناع - موقع نور الإسلام