أزمة الوعي

ملفات متنوعة

إن المرتبة العالية التي حازها الإنسان، والتي جعلته مركزاً للحياة ومحوراً... جعلت على عاتقه أموراً جسيمة وأمانة تنوء بحملها الجبال الصم...


إن المرتبة العالية التي حازها الإنسان، والتي جعلته مركزاً للحياة ومحوراً... جعلت على عاتقه أموراً جسيمة وأمانة تنوء بحملها الجبال الصم... فكيف لدفة الحياة أن تسير وللخط الحضاري أن يصعد للأعلى ما لم يتحرك هذا الكائن الكريم لغرس بذرة العمارة لهذه الأرض، وتحقيق العبودية الحقة لله بمفهومها الشامل، ودفع عجلتها للنماء والتطور.

ولكن في مقابل هذا الواجب العظيم الملقى على عاتق الإنسان هناك واجبات أخر... توجب عليه تهيئة نفسه بها لكي يحقق القيام بذلك الواجب الأكبر على أكمل وجه....، وكما يقول الأصوليون: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ومن هذه الواجبات المتحتمة على الإنسان القيام بها هو واجب الوعي والإدراك السليم لكل حركة من حركات هذا الكون وهمساته، والتفاعل الأسلم معها.


والناظر في لحظتنا الحاضرة هذه يعلم علم اليقين أن الإنسان منا يعاني من أزمات عدة، سواءً في تعامله مع نفسه أو من خلال نظرته للحياة والأحداث الدائرة فيها، فتجده يخوض ويتخوض في مهمهاتها بغير إدراك ولا وعي كامل...، ومن تدبر النتائج على أرض الواقع وجد صدق كلامنا هذا فهو يتعامل معها وهو إنسان مأزوم فرط في جوانب التكميل والتكامل، ونزع عن المنهج الإلهي القويم في التعاطي مع الأحداث والحوادث فتداخلت الأمور وظهرت النزعات وغابت القيم السامية التي ترسم معالم الطريق في الحكم على الأحداث والظواهر، ولك أن تعرف أيها القارئ الكريم حجم ما نعانيه بفقداننا لقيمة الوعي ومدى الأزمة التي نعيشها.... انظر إلى كثير من الخلافات - ولا أقول الاختلافات - الحادثة بين الأفراد وردود الأفعال الناتجة من ذلك، وحظوظ النفس غير السوية الداخلة في تكييف الفعل ورد الفعل، والنظرة السطحية لتفسير الأفعال والتي تفتقر إلى أسس النظر الثاقب والعميق....


إن الوعي هو محصلة عمليات ذهنية وشعورية معقدة، فكل المؤثرات الداخلية والخارجية تؤثر في تشكيل الوعي العام للفرد ومن ثم المجتمع، فالتفكير مثلاً.. لا ينفرد بعملية تشكيل الوعي - كما هو متصور - فهناك أمور عدة تدخل وتتداخل في تكوين الوعي المراد، فالفطرة والمبادئ والقيم والثقافة والحياة الاجتماعية ونظمها والصورة الذهنية والظروف المحيطة والخيال والمشاعر والأحاسيس والضمير وغيرها تدخل لتكّون ذلك الخليط المتجانس من المقومات، والتي بدورها تحدث تبايناً من شخص لآخر، ومن مجتمع لمجتمع آخر، فتجسيد عملية الوعي وجعلها واقعاً يسّير مواقف المرء وأحكامه تحتاج لشعور وإدراك ونزوع، وهذه النقطة غاية في الأهمية لمعرفة القيمة الحقيقة للوعي والجدوى من تحقيقها وتكميلها.


ولسان حال الواقع يشهد على كثير من أفعالنا، والتي نمارسها بغير وعي ولا إدراك متأني... فتخرج نتائجنا كمولود خداج من حيث المظهر والجوهر.
وما جاءت، وتولدت نظرة الخداج هذه إلا ببعدنا عن المنهج الإسلامي الأصيل في معالجته، ونظرته للأمور، وللأحداث، ومن تأمل آي الذكر الحكيم، وأحاديث سيد المرسلين وسير السالفين من علماء الأمة وأهل الرأي فيها... وجد الطريقة المثلى للوعي السليم، والجاد، بل تعدى ذلك بأن بدأ بالأمور الوقائية قبل الولوج إلى نقطة الحكم وإصداره، والتي بدورها تصنع حاجزاً منيعاً يحوط به منطقة الوعي من التأثر والتأثير، وأمثلة ذلك في كتاب الله وسنة نبيه مشهورة منشورة، وبالمثال يتضح المقال.
ألم يقل الحق - تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، فأكد ربنا على الاستبانة أولاً بقوله {فتبينوا} قبل القيام بالفعل وردته، حتى لا نصبح بعد ذلك من الجاهلين.


وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كما ورد عنه «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [صححه الألباني في صحيح الترمذي:2317]، وهو الذي - عليه الصلاة والسلام - يحث على المشاركة في الحياة العامة، والفعل الاجتماعي، يقول: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ليثبت قيمة كبيرة للوعي والإدراك، إن من لم تعنه كثير من الأمور، والأحداث فلا يشغل ذهنه وباله، وليملأ رأسه بما يعنيه ويستفرغ بذلك وقته وجهده.
وهذا الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يعبر بمعنىً من أروع معاني الواعين لحوادث الزمان وغيره، والمدركين لمآل الأمور وعواقبها، فيقول تعليقاً على حديثٍ جرى في مجلسه، وبين يديه حول الفتنة التي حصلت بين الصحابة - رضوان الله عليهم - في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتقاص أحد الحاضرين لأحدهم، حيث بادره بالقول: "يا ابن أخي تلك فتنة قد نظف الله منها أيدينا - بالقتال - فلننظف منها ألسنتنا".


وفي الختام هناك حقيقة يجب أن يعلمها ويعيها الجميع لتكون نبراساً نهتدي به في بعض ظلمات هذه الحياة، مؤداها في أن جِماع أمور الوعي الجاد والإدراك السليم ومفرداتهما، مردها إلى مدى توقير الله في قلب المرء المسلم، ومدى تصور المرء منا واستشعاره لمعية الله - تبارك وتعالى - له في جميع تصرفاته وأقواله وأفعاله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فمن تحلى بالتقوى والمراقبة، وجد في تطوير جاد لذاته... هل ترون أنه ينزع لغيبة الآخرين، أو إساءة الظن بهم، أو تجريحهم،أو إضمار الحسد والحقد تجاههم؟ أو غيرها من الخصال القبيحة، والسيئة، والتي تؤثر تأثيراً مباشراً في عملية الوعي، حتى يصبح المرء في نهاية المطاف يسير بلا وعي وبلا إدراك إلى ما ينبغي منه.

نسأل الله أن يوفقنا للخير، وأن يعمر قلوبنا بالإيمان، وعقولنا بالرشاد.


مشاري بن عبدالله السعدون - 11/5/1425 هـ


المصدر: موقع المسلم