أيام في منى وعرفات (2/4)

الشيخ محمد بن موسى الشريف

فلما وصلت إلى جمرة العقبة فوجئت برجل أسود ضخم قد نزل إلى حوض الجمرة فاعتنقها، وصار يضربها هائجاً بمداس في يده، وحصى الجمار تنهال عليه من كل جانب


إن اجتماع مليونين أو ثلاثة ملايين من البشر في بقعة واحدة مدعاة لحدوث عدة نقائص وذلك لاختلاف العادات والطبائع، ولأن كثيراً من الحجاج يأتون من بلاد لا تأخذ بأسباب النظافة ولا تلقي بالاً لتبعات القذارة.



وقد رأيت من ذلك جملة بعضها يعد من الغرائب والعجائب، فمن ذلك:



1.كنت في أحد المخيمات الصاعدة في الجبل، والطريق منها إلى السفح ضيق متعرج وعر، وكنت أنزل مع عدد كبير من الحجاج يتبع بعضنا بعضاً لضيق الطريق، وكنا نسير خلف امرأة افريقية، بعد العشاء فالطريق مظلمة، فما كان من المرأة إلا أن تنحت قليلاً وجلست القرفصاء لتقضي حاجتها أمامنا في الطريق الضيقة فلم تستح منا، ولم تكترث لبولها الذي ظل يهبط معنا في أثناء نزولنا !!



2.وكانت هناك امرأة افريقية تسير مع وصيفاتها، وكن جمعياً يكشفن عن نحورهن وشيء من صدورهن، فعمدت إلى امرأة منهن فنصحتها بالإشارة وتلطفت، فما كان من المرأة إلا أن نهرتني فانصرفت عنها، فتبعتني غاضبة، فأسرعت الخطى فأسرعت خلفي حتى اضطررت للهرولة فراراً من الموقف الحرج، فماذا أصنع بامرأة تريد أن تنال مني بلسانها ويدها !!



3.ذهبت لأرمي الجمار في إحدى حجاتي، فلما وصلت إلى جمرة العقبة فوجئت برجل أسود ضخم قد نزل إلى حوض الجمرة فاعتنقها، وصار يضربها هائجاً بمداس في يده، وحصى الجمار تنهال عليه من كل جانب، ولا يزيده ذلك إلا هيجاناً وتشبثاً بعمود الجمرة ومزيداً من الضرب المتتالي، ولا تسل عن الدماء التي سالت من جسده من كل جانب، وشبهته بالمرجوم في حد الزنا والناس لا ترحمه فتنتظره حتى يفرغ، وهو لا يرعوي ولا يكف، وإنا لله وإنا إليه راجعون. !!



ولا شك أن هذه الوقائع الثلاث الماضية منبئة عن جهل فظيع، وقلة وعي، وانعدام بصيرة، فهؤلاء الحجاج يأتي كثير منهم من أماكن بعيدة منعزلة، لم تصلها يد التهذيب، ولم تفعل فيها الحضارة فعلها، فلذلك يفعل حجاجهم هذه الأفعال الغريبة المنكرة.



أما عن قلة النظافة في المشاعر فحدث ولا حرج، وإنما ذلك عائد لما ذكرته آنفاً من أسباب وعوامل، ولاجتماع الناس في بقعة ضيقة أياماً عديدة، ولقد زرت مخيم حجاج أوروبا لمحاضرة دعيت لإلقائها، فلما وصلت إلى مكانهم وكان في منطقة "هـ" أي في مزدلفة خارج منى !! هالني ما رأيت من أكوام القمامة، والقذارة المنتشرة، ومما أحزنني أن بعض الحجاج الأوروبيين أخذوا يصورون تلك المشاهد المؤذية، والله أعلم بغرضهم من هذا، وقد حزنت لما رأيته، وأتمنى أن يكون الحجاج من المسلمين حديثاً في أحسن أماكن منى، وذلك لأنهم ـ في الجملة ـ لم يعتادوا رؤية ذلك في بلادهم، ولأننا معشر العرب والمسلمين عظيمو الاحتمال، كثيرو الصبر، يعذر بعضنا بعضاً بخلاف أكثر هؤلاء.



ولقد حدثني الأستاذ عبد الحليم خفاجة المقيم في ألمانيا منذ سنوات طويلة، حدثني أنه أتى للحج في جماعة من المسلمين العرب ومعهم فتاة ألمانية أسلمت حديثاً، وكان الوقت صيفاً والحرارة شديدة، والقمامة متراكمة في أماكن كثيرة، فحدثني أن هذه الفتاة الألمانية لم تطق ما رأته وأنها ارتدت عن دينها بسبب ذلك!! وقد قرر هو ومن معه ألا يأتوا بمسلم جديد للحج إلا بعد أن يأتوا به للعمرة تمهيداً لما سيشاهده في الحج بعد ذلك، وللتدرج الحكيم المطلوب في التعامل مع أمثال هؤلاء.



وينبغي أن يجتمع أهل الفكر والدعوة والعلماء والمشايخ والرسميون المسؤولون عن الحج، ينبغي أن يجتمع هؤلاء جميعاً ليقترحوا الحلول الملائمة لحال الحجاج، وليقللوا من الفساد والضرر الناجمين عن قلة الوعي، وسوء الفهم والجهل.



ومن أشد ما يزعج الحجاج هذا الزحام الشديد الذي لا مبرر له عندي، فالواجب إنشاء شبكة من القطارات السريعة بين المشاعر، وإلغاء هذه الحافلات أو التقليل منها قدر الإمكان، فليس من المعقول أو المقبول شرعاً وعقلاً بقاء كثير من الحجاج 8-10 ساعات حتى يصلوا إلى المزدلفة من عرفات، ولو وجدت القطارات لقطعت المسافة في عشر دقائق !! وهذا الأمر متكرر قد رأيته منذ أول حجة لي قبل ثلاثين سنة !! والمصيبة كل المصيبة أن الحجاج لا يرون أي تحسن طوال هذه السنين العديدة، وكم من الحجاج من قضى ليله خارج المزدلفة فلم يصلها إلا بعد الفجر بساعة أو ساعتين !! وكم من الحجاج من لم يصل المزدلفة إلا قبل الفجر بدقائق، وكم منهم من وصل مرهقاً متعباً أو مريضاً من طول الجلوس في الحافلات، والحال نفسه يتكرر في أيام منى كلها فالدخول إليها والخروج منها عسر للغاية، والناس في حرج وشدة من طول الانتظار وكثرة الحافلات وانسداد الطرقات، فأرجو أن يمن الله علينا بفرج قريب، ورأي رشيد، وتغيير سديد.



نعم إن الحجاج في غمرة فرحهم بحجهم سرعان ما ينسون تعبهم هذا ويرجون الأجر عليه ، لكن لماذا لا يتيسر الحج ويصبح سهلاً فيتفرغ الحجاج لأداء المناسك عوض أن يظلوا طيلة أيام الحج متذمرين شاكين من طول مدة بقائهم في الحافلات، متذكرين في ذلك طول القيام يوم يبعثون من قبورهم !!



 


المصدر: موقع التاريخ