أيام في منى وعرفات (4/4)

الشيخ محمد بن موسى الشريف

ورأيت رجلاً مصرياً كهلاً يوشك أن يسقط، وإذا سقط المرء فهو الموت لا غير إلا أن يتداركه الله تعالى فما كان منه إلا أن ضرب بعصاه ـ وكانت صولجاناً ـ رؤوس الناس حتى يفسحوا له لئلا يسقط !! فلما رأى ذلك ابن عمي قفز فوق ظهري وتعلق بعنقي فازداد الطين بلة


من المواقف العجيبة ذات الدلالة العميقة أني حججت سنة 1399/1979، أو السنة التي بعدها فلا أذكر الآن، وقد حججت في مخيم كان كله من العوام، فجاءني رجل فلسطيني مسن وسألني ـ وأنا لا أعرفه ولم يسبق لي أن رأيته ـ: هل تعرف البنا ؟ فقلت: أسمع به، فقال: قد جاءنا في غزة في شتاء سنة 1947 وأظن أنه قال في شهر ديسمبر، وخرج بنا إلى خارج البلد، فصلى بنا العشاء في ليلة باردة وكنا جالسين على الطوب، فظل يحدثنا إلى الفجر ولم يقم منا أحد، وهذه من العجائب التي لم أسمع بمثلها للمتأخرين دع عنك المعاصرين، وهي دالة على علو همة الأستاذ البنا رحمه الله، وتدل الحادثة أيضاً على عظم تأثير الأستاذ البنا رحمه الله في النفوس، وبلاغته التي تواترت واشتهرت، وكنت قد سألت شيخنا الكبير الشيخ عبد الستار فتح الله عن قضية تأثير كلام البنا رحمه الله تعالى وقد شاهده وسمع منه حفظه الله تعالى، فقال لي: قد كان في مصر محامون يقف أحدهم في المحاكم يترافع ثلاث ساعات أو تزيد من غير ورقة وهم أفصح من البنا وأبلغ لكني لم أجد من يتكلم ويؤثر مثل الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله، وقد سمعت عن عظم تأثير كلامه من أشخاص آخرين وقرأتها في مواضع من كتب عديدة، وأرجع هذا إلى الإخلاص والثقافة العالية والعلم الشرعي المناسب، أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكي على الله تعالى أحداً.


ومن الأحداث الدالة على حسن تجاوب الحجاج مع ما يطرح عليهم وما يوعظون به ما يلي:
أ- جئت إلى أحد المخيمات فتحدثت عن النقص الشديد في عدد المساجد في بلاد التركستان الغربية، وهي جمهوريات خمس زرت منها آنذاك قزقستان وقيرغيزيا، وعرضت عليهم المشاركة في بناء مسجد هناك بعد عرض موجز عن حال تلك البلاد، فسارع عدد من الأشخاص لإعلان مساهمتهم في بناء مسجد ضخم في تلك الديار، وهذا من بركة الزمان والمكان.

ب- هناك عدد من المخيمات الخاصة بطلاب الثانويات والجامعات قد زرتها وتحدثت مع الطلاب فيها، فوجدت استجابة فريدة من عدد غير قليل منهم، وكم من هؤلاء الشباب من جاءني بعد الحج يطلب مني التوجيه أو وضع منهج لحياته علمي أو شرعي أو دعوي، وهذا من المشجعات لي على الكلام مع الطلاب في الحج وغيره، إذ أني أعدهم زاد الأمة ومستقبلها وشمسها المرتقبة وغدها المضيء بإذن الله تعالى، وهم أكثر الناس تأثراً وأحسنهم استجابة في ظني وتقديري، وما أجمل أن يأتيك شاب في صدر شبابه، يتساءل: كيف ينصر الإسلام، وكيف يعمل من أجل رفع لوائه في الأرض عالياً، أو يطلب منك إرشاداً لإعلاء همته، أو تعظيم ثباته، أو تحسين عبادته، أو غير ذلك مما ينشرح له الصدر وينجلي به الهم، فيشعر المحاضر بالتفاؤل والأمل، ولهذا كله أكون إذا دعيت إلى مجمع طلابي لأتحدث فيه فإني غالباً ما أجيب دون تردد، وإذا دعيت إلى غيره من المجامع فإني أتردد وأتأنى وأوازن، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلهم من الشباب، وهم الذين قامت عليهم دعوة الإسلام في فجر الدعوة.

ومن الأمور التي انطبعت في عقلي وقلبي فلا أنساها ما جرى في حج سنة 1403، وكان جسر الجمرات قد افتتح في ذلك الموسم فيما أذكر، وقد حججت تلك السنة مع عمي طارق يرحمه الله وزوجه وبعض أولاده، فطلب مني عمي أن أذهب بأحد أبنائه لرمي الجمار، وكان الولد صبياً آنذاك ربما كان قريباً من سن الخامسة عشرة، فطلعت فوق الجسر، وكان الزحام شديداً جداً على أننا رمينا في الليل، وإذا بالناس يعصر بعضهم في جوانب الجسر، ولقد رأيتهم يموتون أمام ناظري رحمهم الله تعالى وغفر لهم، ورأيت رجلاً سقط أمامي فدهسه الناس ولم يقم بعد ذلك، ورأيت رجلاً مصرياً كهلاً يوشك أن يسقط، وإذا سقط المرء فهو الموت لا غير إلا أن يتداركه الله تعالى فما كان منه إلا أن ضرب بعصاه ـ وكانت صولجاناً ـ رؤوس الناس حتى يفسحوا له لئلا يسقط !! فلما رأى ذلك ابن عمي قفز فوق ظهري وتعلق بعنقي فازداد الطين بلة، لكن الله سلّم، وانتهينا من الرمي، وعلى إثر ذلك الموسم المزدحم صدر قرار بتحديد عدد الحجاج للدول الإسلامية بحيث يحج من كل مليون ألف، وهذا خفف من الزحام، وفي هذه الأيام بُني الجسر ذو الطبقات المتعددة، وأظن ـ والله أعلم ـ أنه سيمكن جماعات كبيرة جداً من الحجاج من أداء المناسك بيسر وسهولة وربما يسمح في المستقبل لأعداد أكبر مما هو مسموح به الآن تبعاً لهذه التوسعة الكبرى، والله الموفق.


المصدر: موقع التاريخ

<