هلك في عاشورا

الشيخ سليمان بن أحمد بن عبد العزيز الدويش

إن رفع الشعارات، وإقامة المآتم، ورفع الصوت بالنياحة، ولبس السواد، وتقطيع الأجساد، لا يكفي لأن يكون علامة على حب آل البيت؛ فالحب بمعناه الحقيقي يستلزم الطاعة وعدم التعدي.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فها قد جاء يوم عاشورا وهو اليوم الذي من الله به على أهل التوحيد بنصرة رمز من رموزهم، وكبت فيه أهل الشرك بهلاك رأسٍ من رؤوسهم.

لقد صام النبي صلى الله عليه وسلم هذا اليوم وأمر بصيامه وقد جاء في الصحيح ‏عن ‏‏ابن عباس ‏ ‏رضي الله عنهما ‏قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا"، قالوا: "هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى"، قال: "فأنا أحق بموسى منكم"، فصامه وأمر بصيامه» .

ومن هنا يتبين لنا عظيم الرابط بين أهل التوحيد على اختلاف أزمنتهم وتباعد أماكنهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أحق بموسى منكم» .

ونحن نقول لمن حوّل هذه النعمة التي يشكرها الموحدون إلى مأتم يساء فيه إلى التوحيد وأهله: "نحن أحق بآل البيت منكم".

إن محبتنا للحسين رضي الله عنه محبة تنبع من عقيدة صافية، لاتجعلنا نرفعه فوق منزلته، فندعي له العصمة، والقدرة على إجابة المضطر، وجلب النفع، ودفع الضر، ولا تبخسه حقه الشرعي، وهو أحد سيدي شباب الجنة وسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.


إن رفع الشعارات، وإقامة المآتم، ورفع الصوت بالنياحة، ولبس السواد، وتقطيع الأجساد، لا يكفي لأن يكون علامة على حب آل البيت؛ فالحب بمعناه الحقيقي يستلزم الطاعة وعدم التعدي.

إن من يزعم أنه يحب الحسين رضي الله عنه، ثم يلعن أمه الصديقة رضي الله عنها ويتهمها بالفاحشة، هو والله عدو له وكاذب في زعمه... وكيف لا يكون عدوا له وعائشة رضي الله عنها أمه، وهي أم المؤمنين بنص القرآن: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[سورة الأحزاب: 6]، إلا أن يكون ممن لا يعتبر الحسين رضي الله عنه مؤمنا .

ومن يزعم محبة آل البيت ثم يعطيهم من القداسة والعصمة فوق مالرسل الله وأنبيائه يعد في نظر العقلاء مخادعا.

كيف نتصور ممن يلعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين أنه يحب آل بيت النبي الأطهار؟!

كيف يمكن لنا أن نصدق حب آل البيت في قلب رجل يرى أن صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ورفيقيه في قبره، أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما الجبت والطاغوت وصنمي قريش؟!!


إننا لا ينبغي أن تخدعنا تلك الشعارات بحال...

إن المحبة الحقيقية تقتضي محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة من أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة من مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ، ومحبة من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إيمانه يعدل إيمان الأمة كلها، وأمر بالاقتداء به من بعده.

وتقتضي أن نحب من أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه أحب الناس إليه وهي زوجته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأن نعتقد أن رميها بالفاحشة كفر بالله تعالى، وإساءة بالغة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتخوين لعرضه الشريف، وأنه ماكان لنبي أن يخان في عرض.

لقد هدى الله في هذا اليوم العظيم أقواما للحق وأضل آخرين.

هدى أهل التوحيد للشكر والقربة، والفضل والأجر، وجعله لهم يوم فرح وغبطة، ومن شكرهم لله صيام ذلك اليوم العظيم، ومخالفة أهل الكتاب بصيام يوم بعده أو يوم قبله.

وأضل أهل الزيف والزيغ، فصرفهم عن سنة خير البرية إلى مآثم ابتدعوها، ومآتم اصطنعوها، وشعارات رفعوها، قطَّعوا بها أجساد الجهال، واستدروا بنياحهم فيهاعطف الرعاع، وخادعوا الضعفة.

إنه لن يكون فرعون أسوأ بحال وهو القائل: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي}ممن جعل مع الله غيره، فعبده من دونه، وصرف له وجهه، والله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف: 55]، ويقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر: 60].


إن الصراخ والعويل والتطبير والتزمير لن يقنعنا أن الحسين رضي الله عنه يستحق أن يدعى من دون الله , أويستغاث به لتفريج الكربة وإزالة الغمة، بل وكيف لنا أن نقتنع بذلك والله تعالى يقول في كتابه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [سورة النمل: 62].

ولهذا فعلى من قاد الجموع، وأسال الدموع، وأشعل الشموع، ولبس السواد، وأعلن الحداد، وكرر وأعاد، وصرخ وبكى، وناح واشتكى، ولجَّ واستغاث، وبجسده في السلاسل عاث، أن يعلم أن للحسين رضي الله عنه ربَّا يدعى وأن الحسين رضي الله عنه وغيره قال عنهم ربنا جل جلاله: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[سورة الإسراء: 57]؛ أي أن من يدعوه الناس من دون الله سبحانه، وإن كان نبيا مرسلا، أو ملكا منزلا، أو وليًا مقربًا، كل هؤلاء يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا... فلماذا يُدعون وهم كذلك، ويُترك من بيده النفع والضر سبحانه؟!!

فهل بعد هذا يحق لقائل أن يقول إنه أحق بآل البيت منا، وهو يهدم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته من التوحيد الخالص؟!

كلا والله فنحن أحق بآل البيت رضي الله عنهم، وبغيرهم من المؤمنين، من أؤلئك الذين أشركوا مع الله غيره.

قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [سورة المائدة: 55].

وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّـهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 71].

ولا سواء: فنحن نصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحبه أحب من أنفسنا وما ملكت أيدينا، ونترضى عن أصحابه الأطهار، ونعرف فضلهم، ونسلِّم على آل بيته وأزواجه، ونعتقد طهارتهم وشرفهم، كما قال الله في كتابه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[سورة الأحزاب: 33]، ولكنا لا نعتقد لهم علم الغيب، ولا القدرة على ما اختصه الله لنفسه، أو ما لايقع إلا بأمره وتدبيره، من إحياء الموتى، وشفاء المرضى، وإغاثة المكروب، وتفريج الهم، وقضاء الحاجات، وسعة الرزق.

ولهذا فيحق لنا أن نقول لقد هلك في عاشوراء، من ابتغى غير سبيل المؤمنين، فصرفه الله عن الشكر إلى الحزن، وعن التوحيد إلى الشرك: {وَمَن يُهِنِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [سورة الحج: 18].


اللهم انصر إخواننا في فلسطين على خونة اليهود وخونة قومهم يا قوي يا عزيز، اللهم اخذل من خذلهم، اللهم اجعل الدائرة لعبادك في غزة، اللهم قوِّ عزائمهم، واربط على قلوبهم، وسدد رأيهم، وصوِّب رميهم، وأمدهم بمدد من عندك، وجند من جندك، وأبدل خوفهم أمنا، وذلهم عزا، ومهانتهم كرامة، وفقرهم غنى، وتفرقهم إلفة وتماسكا، واحمل حافيهم، واستر عاريهم، واشف مريضهم، وأطعم جائعهم، واجبر كسيرهم، وفكَّ أسيرهم، ويسِّر عسيرهم، واجعل لهم من كل همٍّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، ومنَّ عليهم بفتح مبين.

اللهم لا تكلهم إلى أنفسهم، ولا إلى أحد من الناس، وأغنهم بك عمَّن سواك، وألبسهم لباس الصحة، واقلب محنتهم منحة، وعَبْرَتهم بسمة، وترحهم فرحا، واجعلهم شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك قابليها.

اللهم أمكنهم من رقاب عدوهم, وسلطهم عليه فيسوموه سوء العذاب، اللهم افضح من فضح لهم سرَّا، أو هتك لهم سترا، أو تمالأ مع عدوهم عليهم يا قوي يا عزيز.

هذا والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.