الملتحي والآخر.. حدث فعلاً

ملفات متنوعة

تقابله أمام المصعد بشعرها المرسل وملابسها المثيرة، وهو هناك بلحيته الطويلة، ينظر في اتجاه آخر ويبدوا كمن يفكر في أمور تشغله عن كل ما حوله، ملامحه ثابتة ووجهه لا يتحرك...



تقابله أمام المصعد بشعرها المرسل وملابسها المثيرة، وهو هناك بلحيته الطويلة، ينظر في اتجاه آخر ويبدوا كمن يفكر في أمور تشغله عن كل ما حوله، ملامحه ثابتة ووجهه لا يتحرك، قابلته صدفة في بعض المرات، لماذا لا ينظر إليها؟ الكل معجب بها؛ بملامحها الجميلة تكون محط الأنظار في كل مكان تذهب إليه، أما هو فدائماً ما ينظر بعيداً، لماذا يا ترى؟ تساؤلات لا تعرف إجابتها.


تزوج وسكن في عمارة جديدة، تعرف على الجيران، وكان هناك جار مسيحي وأسرته وابنته المعاقة، العلاقة فاترة، يقابله بلحيته الطويلة المرسلة فيلمح في عيونه ذات النظرة "قلق وهروب وتشكك"، يحاول التواصل معه ولكن كان الجار دائماً ما يتجنبه هو وزوجته - والتي هي منتقبة بطبيعة الحال - مع أنها كثيراً ما تحدثت معه عن معاناة هذه الأسرة مع البنت المعاقة وصبرهم عليها، تمر الأيام ويخرج صاحبنا الملتحي لصلاة الجمعة فيجد مبلغاً من المال، مبلغ كبير فعلاً أمام العمارة، يقوم بحمله معه ويذهب إلى صلاة الجمعة، بعد انتهاء الصلاة يعود إلى العمارة ويقابل أحد جيرانه فيسأله هل سقط منه أيّ مبلغ مالي؟ فينفي ويقول له: "في الغالب جارنا الفلاني (الجار المسيحي) لأنه يذهب إلى عمله مبكراً"، يذهب متردداً إلى شقة جاره ويدق جرس الباب، يأتيه صوت زوجة جاره بعد أن نظرت من العين السحرية قائلة بارتباك شديد: مين؟ فيرد: أنا جاركم الفلاني، هل ضاعت منكم أية أموال؟ تشهق بفرح وتفتح الباب: "نعم نعم، ضاع من زوجي مبلغ كبير وهو ذاهب إلى العمل"، فيسألها عن القيمة فتخبره فيقوم باعطائها المال، تشكره كثيراً وتدعوا له ويتركها وينصرف، في المساء يصعد إليه الجار المسيحي ويدخل إلى منزله لأول مرة ويشكره كثيراً على أمانته وتستمر العلاقة الطيبة فترة طويلة، وعندما يهم بمغادرة المنزل إلى بيت جديد يودعه جاره المسيحي وهو يكاد يبكي.


ولأن صاحبنا الملتحي طموح نوعاً ما، ولأن الله منحه الكثير من نعمه التي لا تحصى، جاءته الفرصة ليقوم بالتدريس في كبرى الجامعات الخاصة لبعض الوقت بجانب عمله والذي حقق فيه نجاحاً ملحوظاً بفضل الله، تجربة جديدة، وفي أول محاضرة له تحدث عن قيمة العدل وأن جميع الطلاب سيحصلون على فرصة متكافئة ولن يكون هناك أي محاباة على أساس الجنس أو الدين أو غيره فلكم عانى هو من الإقصاء والظلم والتحقيق والاعتقال بسبب هيئته، أصبح من أشهر المدربين في الجامعة وتم تكريمه بلحيته الطويلة المرسلة، وفي نهاية أحد الفصول الدراسية وجد في بريده الإلكتروني هذه الرسالة من الطالبة المسيحية والتي أصرت على أن تدرس في الصف الخاص به: "أنا متحمسة جداً وأريد أن أوقف كل شئ لكي أقول لك كم أنا مقدرة لمساعدتك خلال الفصل الدراسي، لقد كنت صبوراً، ملهماً، وتجعل الأشياء ممتعة، أشكرك جداً على كل شئ، ولن أنساه أبداً!


كنت دائماً أقول إنني لا أحكم على الناس بمظهرهم ولكنك جعلتني أتعلم الدرس بشكل عملي من بداية إلى نهاية الفصل الدراسي! لقد تخليت عن كل التوقعات والقوالب الثابتة التي كانت لدي سابقاً! لقد فوجئت بشكل مثير للدهشة من شخصيتك وحديثك، لقد شعرت أنك لا بد أن تعرف هذا".


كانت هذه بعض الحقائق من حياة الملتحي والمصنف كسلفي في ملفه بأمن الدولة - لا أعاده الله-، عندما يجلس مع أصدقائه وكثير منهم من الملتحين، لا أحد يتحدث عن استمتاعه بقطع يد السارق ولا عن مدى نشوته أن تم تطبيق حد الرجم أو حد الجلد - مع رغبته التي لا يخفيها في أن تطبق شريعة الله والتي تمثل الحدود مجرد جزء من شرع رائع ومحكم وفيه صلاح البشرية كلها-، يضحكون ويمرحون وإذا مرّت أمامهم فتاة لا أحد يتفحصها ولا أحد يعاكسها ولا أحد يتحدث عن أجزاء جسدها ولا أحد يسخر من هيئتها، تمر فقط ولا يحدث أي شئ بل الجميع يغض بصره عنه اتباعاً لخير من مشي على الأرض محمد صلى الله عليه وسلم، يجلس مع زوجته ويستمتعان بقراءة كتب الراحل الكبير عبد الوهاب مطاوع وقصص بريد الجمعة، يتفاعلون معها، تنساب دموعهم على مآسيهم، أبطال حقيقيون وقصص حقيقية وليست أفلام أو روايات، يتفقون على أهمية العمل الخيري وجمع الصدقات ومواساة المرضى والمحتاجين، بشر كما البشر!


كنت دائماً الملتحي السائر في حياته بحلوها ومرها ولم أقصد بهذه الحكايات أمراً شخصياً ولكنها محاولة لفتح باب فهم الآخر، أياً من كان هذا الآخر، وفتح لباب التوقف عن الأحكام المسبقة والعامة، المجتمع يعاني الآن، عندما خرجت في جمعة الغضب خرجت للتخلص من نظام ظلم هذا الشعب، تخلصنا منه ولكن بقي الكثير مما زرعه هذا النظام وأبرزها الحكم السلبي على الآخرين والتعميم وعدم محاولة فهم الآخر أو التواصل معه، الإقصاء في أبشع صوره والنظرة الاستعلائية، هنا أتحدث عن الجميع جميع أطياف المجتمع بحاجة للتصالح ومعرفة أن المصير واحد والمركب واحد: سننجو معاً أو نغرق معاً، أشعر ببعض الحزن الآن ولكني تواسيني صور الشهداء، أنظر إليها أثناء كتابة هذه السطور، ما كل هذه البراءة وكل هذه الشجاعة، بالتأكيد لن تضيع دمائكم هباءاً وستبقي مصر الجميلة الرائعة التي حلمنا بها معاً، ياليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً، نعم يا ليتني كنت معكم..


وسام الشاذلي
استشاري نظم، مدرس بكلية التعليم المستمر بالجامعة الأمريكية.
دبلوم دراسات عليا في الاقتصاد الدولي، ماجيستير إدارة الأعمال.


29-03-2011 م
 


المصدر: وسام الشاذلي - موقع جريدة المصريين