بناء العقيدة

ملفات متنوعة

إن طريق الدعوة والجهاد فيه من المشقة والجهد ما يحتاج معه إلى صبر وثبات والذي لا عقيدة له، لا يمكن أن يثبت في ميدان الجهاد


إبراهيم بن صالح الدحيم

ثـلاث عشـرة سـنة بعـد البعثـة والنـبي صلى الله عليه وسلم يقرر العقيدة ويرسخها في نفوس أصحابه بمكة موجهاً أكثر جهده إلى تقرير التوحيد وترسيخه؛ فلماذا هذه الفترة الزمنـية الطـويلة؟ هل كـان التـوحـيد معـادلات صعـبة يُحـتاج معـها إلى هـذا الوقـت؟ وهـل كان طـويلاً جـداً بحيث يقتضي هـذه الفـترة؟! وهـل كانت قـريـش تعـاني من عَـوْق ذهـنـي، وبـطءٍ في الفـهم، وصعوبات في التعلم، فهي لا تسـتطيع أن تنـهي مقرر التوحيد إلا في ثلاث عشرة سنة؟ كلاَّ! فلم تدخـل العقيـدة شـيئاً مـن الطول والتوسع في التقرير والردود -الذي احتيج إليه- إلا بعد فتنة الكلام. كان من يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم جلسة قصيرة يفهم منه مقصود الدعوة التي يدعو إليها والتوحيد الذي ينادي به دون عناء.

لقد كانت قريش تعي تماماً ماذا يريد النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة التوحيد (لا إله إلا الله) فهي تعلم أنها ليست كلمة تقال دون أي تبعات، ولذا واجهت دعوته بالصدود والإعراض والعناد، كان ينادي في أندية مكة وبطاحها أن قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا. فكانوا يقابلون ذلك بالصدود والاحتجاج يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. كانوا يعرفون أن إقرارهم بـ: (لا إله إلا الله) إبطالٌٌ لكل تعلُّق بغير الله؛ فلا هُبَلَ ولا عُزَّى ولا ودّاً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا.. إذ لا مغيث ولا مجير ولا مدبر ولا مالك ولا رازق ولا معبود بحق إلا الله..

ولذا عارضت قريش هذه الدعوة بكل قوة، ووقفت منها موقف العداء، وحاولت الحد من انتشارها وتجفيف منابعها. عن ربيعة بن عبَّاد الديلي وكان جاهلياً فأسلم، قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب. فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لي: هذا عمه أبو لهب".

• مقصود دعوة التوحيد:
إن قضية التوحيد وترسيخ العقيدة قضية كبرى لا يصح أن يُختزل فيها الوقت، وأن تختصر فيها الدروس والمحاضرات، وأن يكتفى فيها بالتنظير الذهني دون التربية العملية؛ إذ لم يكن منتهى المطلوب في التوحيد الذي جاء به وقام يدعو إليه ثلاث عشرة سنة أن ينطقوا بلا إله إلا الله؛ إذاً لكان الأمر سهلاً والطلب ميسوراً، ولَـمَا استغرق هذا الوقت الطويل. ولم يكن المراد من تقرير العقيدة أن تتحول إلى نظريات فلسفية وسفسطات يونانية، أو اعتقادات باطنة لا أثر لها في السلوك الظاهر.

لم يكن يريد منهم أن يقولوا لا إله إلا الله بألسنتهم ولو طـافوا بالقـبور أو قـدمـوا لها النذور أو تمسحوا بالأصنام أو استقسموا بالأزلام أو احتكموا إلى الجبت والطاغوت. روى ابـن كثـير عـن السدي أن أناساً من قريش فيهم أبو جهل ابن هشام، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، في نفرٍ من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه، فينصفنا منه، فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه الذي يعبده؛ لأننا نخاف أن يموت هذا الشيخ، فيكون منا إليه شيء. فتعيرنا به العرب، يقولون: تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه، فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب! أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن آلهتنا وندعه وإلهه. قال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي! هؤلاء مشيخة قومك وسَرَاتهم، وقد سألوك أن تكف عن آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال: يا عم! أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال: وإلامَ تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم. فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها. وفي رواية: ففزعـوا لكلمـته ولقـوله، فقال القوم: كلمة واحدة؟ نعم وأبيك -عشراًـ فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ فقال: لا إله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].

لقد ظل القرآن الكريم يتنزل ثلاثة عشر عاماً في مكة في موضوع واحد، وهو العقيدة ومقتضياتها؛ لأنها هي الأساس الذي سيقوم عليه البناء من بعد. ولما بدأ البناء بالفعل -في المدينةـ فإنه شمخ في سنوات قلائل، بسرعة وتمكن، لأنه كان راسخ الأساس .

لقد كان صلى الله عليه وسلم يريد من هذه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله) أن يصوغ الناس عليها منهج حياتهم كله، وأن تكون (لا إله إلا الله) اعتقاداً راسخاً في القلب لا يتزعزع، يشع بالتسليم والقبول والرضا والانقياد. فكلمة التوحيد منهج حياةٍ متكامل.

منهج يحكم علاقة المسلم بربه، فلا يصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله وحده.

منهج يحكم علاقة المسلم بنفسه وأنه لا يملك التصرف بنفسه إلا بأمر الله وحكمه.

منهج يحكم علاقة المسلم بغيره من المسلمين من بذل الحب والولاء لهم، والتعاون معهم على البر والتقوى، والقيام معهم بالحق والعدل والإحسان.

منهج يحكم علاقة المسلم بغيره من الكافرين والمنافقين بوجوب البراءة منهم والبعد عن ممالأتهم على المسلمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْـمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْـحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْـمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ . إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ . لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 1-3].

إنها مقتضيات التوحيد النقية الناصعة، إنه الفهم الشـامل لكلمة التوحيد: {إنَّا أَنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ . أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْـخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]. أما الدين المركب من عقائد مختلفة يراد منها إرضاء )الآخـر) كما يقال، والالتقاء معه في منتصف الطريق ولو على حساب الثـوابت والكلـيات فـهـو كـفر لا يـرضـاه الله ولا يقبله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْـخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6].

ولما حصل الخلط في عرض العقيدة في بلدان مختلفة عاد الشرك مرة أخرى في صورةٍ من الفصام النكد بين الاسم والمسمى، والشعار والحقيقة، حتى صرنا نرى من يتسمى بعبد الله وعبد الرحمن وهو غارق في الشرك يطوف بالقبور وينذر لها، قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد، فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه أخذ في دعاء صاحبه باكياً خاشعاً ذليلاً خاضعاً، بحيث لا يحصل له ذلك في الجمـعة والجمـاعات وقيام الليل وإدبار الصلوات، فيسـألونهم مغـفرة الذنوب وتفريج الكروب والنجاة من النار، وأن يحطـوا عنـهم الأوزار؛ فكـيف يظن عاقل فضلاً عن عالم أن التلفظ بـ: (لا إله إلا الله) مع هذه الأمور تنفعهم؟ وإنما قالوها بألسـنتهم وخـالفوها باعتـقادهم وأعـمالهم، وصـدق الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف:106].

فعلى المسلمين الذين يعلنون صباح مساء أنهم يحبون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيسوا حبهم بالاتِّباع والسير في الدعوة والإصلاح على طريقته، وأن يعلموا أن مأثرته الأولى - صلى الله عليه وسلم - أنه منح الإنسانية عقيدة التوحيد الصافية العالية؛ فهي عقيدة ثائرة معجزة، متدفقة بالقوة والحياة، مقلبة للأوضاع، مدمرة للآلهة الباطلة، لم تنل ولن تنال الإنسانية مثلها إلى يوم القيامة.

• العقيدة منطلق الدعوة و عمود توازنها:
إن العقيدة هي منطلق الدعوة والتعليم وهي الخط الذي يضبط اتزان الدعوة ويحميها من حُمَّى التفريط وحمأة الإفراط؛ إذ إنها تضع الإنسان في موضعه الصحيح، فتنير له دربه في الحياة، ليسير على هدى وبصيرة.. في معالم واضـحة، وخـطىً ثابـتة، وهدف مرسوم. إن العقيدة ـ عقيدة التوحيد ـ وحدها هي التي تحدد للإنسان هدفه بالحياة، باعتباره خليفة في الأرض، مسئولاً عن إعمارها ونشر الخير والصلاح فيها.

لقد كان التوحيد مبدأ دعوة الأنبياء، كانوا يبذلون في ذلك الوقت الكافي الذي يؤكد البناء ويرسخ الاعتقاد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بـن جبل إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» الحديث.

لا بد للدعوات أن تبنى على عقيدة راسخة صحيحة لأن المفاهيم الرئيسية في العقيدة إذا لم تكن صحيحة وأصابها الانحراف، فكل ما يستند إليها سيلحق بها؛ إذ على فهمها يترتب سائر الأحكام، وانطلاقاً منها توزن الأقوال والمواقف والأحداث.

إن أية دعوة تهمل موضوع العقيدة وتقرير التوحيد وتؤخِّر التربية عليه لن تلبث أن تتصدع؛ لأن البناء لم يقم على قـواعد صـلبة وأسس ثابتة؛ وهذا يحتاج إلى وقتٍ كافٍ.. هذه هي العقيدة.. هذه هي (لا إله إلا الله) في حقيقـتها الاعتـقاديـة.. ليست مجـرد إقرار ذهـنـي بأن الله تعالى واحد؛ فما أيسر أن يعتقد الذهن ذلك -وإن كان صَعُبَ على العرب في جاهليتهم- ولكن تبقى (شوائب) نفسية وشعورية كثيرة عالقة بهذا الاعتقاد الذهني، لا تظهر إلا في السلوك العملي، في حالَيِ الشدة والرخاء سواء؛ وإن كانت الشدة هي المجهر الأقوى الذي تبرُز تحته كل شوائب الاعتقاد: وَمِنَ {النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3]، لمثل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى أصحابه في دار الأرقم: يربيهم ويعلمهم.. يعلمهم العقيدة الصحيحة، ويربيهم عليها .

إننا بحاجة ماسة إلى غرس العقيدة في نفوس الأجيال وأن تُرضَع مع اللبن، وأن ينبت عليها اللحم من نعومة أظفارهم. روى الطبري بسنده عن قتادة قال: (ذُكِر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أهله هذه الآية: {وَقُلِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْـمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، الصغير من أهله والكبير) . وجاء عن السلف الحرص على غرس عقيدة التوحيـد في الأطـفال مـن الصـغر؛ فقد جاء في مصنف عـبد الرزاق: (كانوا يستـحبون أول مـا يفصح أن يعلِّموه (لا إله إلا الله) سبع مرات، فيكون ذلك أول ما يتكلم به) ويقول ابن القيم رحمه الله: (فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا (لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله) وليكن أول ما يقرع مسامعـــــه معرفـــة الله سبحانه وتوحـــــيده وأنه سبحانه فـوق عرشـه ينـظر إليـهم ويسـمع كلامهـم وهـو معـهـم أينما كانوا. وكان بنو إسرائيل كثيراً ما يُسمِعون أولادهم ـ عمانويل ـ ومعناها: إلهانا معنا، ولهذا كان أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، بحيث إذا وعى الطفل وعَقِل علم أنه: عبد الله، وأن الله سيده ومولاه).

إن كل أمة من الأمم تجهد وتسعى لتربية ناشئتها على العقائد المختلفة حتى لو كانت منحرفة ضالة كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» .

• ناتج التربية العقدية:
كان للتربية العقدية التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه نتائج ضخمة، حيث ظهرت ملامحها في جيل الرسالة. وكل تربية تبنى على أساس راسخ من صحة الاعتقاد والنظرة، حتى تتغلغل في سويداء القلوب ستثمر جنىً طيباً وثمراً حلواً، ومن هذه الثمار:

1 ـ التميز والمفاصلة:
صاحب العقيدة واضح لا تذبذب لديه في المواقف ولا في العلاقـات؛ فرؤيـتـه ثابـتـة ونظـرته واضـحة قد ضبط علاقته بالكافر والمنافق وبناها على المصالح الشرعية والقواعد المرعية لا على المصالح الذاتية. لما علم أبو سفيان بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على التوجه إلى مكة فاتحاً دخل المدينة متستراً بجنـح الظلام ساعياً في الصلح، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال لها: يا بنية! ما أدري: أرغبتِ بي عن هذا، الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت: بل هو فراش رسـول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـت رجـل مشرك نجس . وأبو عبيدة رضي الله عنه يقتل أباه في بدر، ويمر مصعب بن عمير رضي الله عنه بأخيه وهو في الأسر فيقول للمسلم الذي أسره: شد وثاقه؛ فإن أمه ذات متاع لعلها تفديك منه، وزاد ابن هشام: فقال: أبو عزيز ـ أخو مصعب ـ يا أخي! هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك .

والذين لم يفهموا (لا إله إلا الله) حقيقة دخلوا وأدخلوا غيرهم مسالك صعبة من التقارب ظناً منهم أنهم بذلك يزيلون طبيعة أخبر الله -وهو العليم بذات الصدور- عن تمكنها في نفوس الأعداء: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

إن المفاصلة والتميز عن الكافر والمنافق ليست من مندوبات القُرَب ومستحبات الأمور، بل هذا التميز بين المسلمين وغيرهم أصلٌ في عقيدة الإسلام وأحكامه، بل هو أساسه، فلا حلول وسطاً ولا التقاء مع الكافر في الأسماء ولا في الأحكام، ولذا قرر الله تعالى هذا الأصل بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، فعند الحكم على الناس عامة يقال: مسلمون وكفار، لا وجود لشيء آخر غير ذلك، حكم لا مناص منه ولا حيدة عنه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2].

إن حال دعاة التقارب ممن ينتسبون للإسلام ومن يلهثون خلف (الإخاء الكبير) ـ كما يزعمون ـ أنهم يتقدمون إلى أعدائهم خطوات، بينما أعداؤهم ثابتون لا يبارحون مكانهم. ولا يحسبن أولئك الدعاة أنهم إذا أخفوا (هويتهم) ولبسوا مسوح الديمقراطية فسيؤذن لهم ويمرون! كلا! إن كلاب الصيد ذات حاسة شمٍّ قوية.. تشم من بعيد! {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].

وإذا كان كفار الجاهلية من قبلُ قد عرفوا معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وأنها تعني نبذ كل معبود، وأن الحكم لله فوقفوا منها موقف المعارض المنازل، فإن كفار زماننا قد فهموا ذلك، وعلموا أن التمكين لعقيدة الإسلام يعـني إلغاء غيره والهيمنة عليه: (فحين تكلم الرئيس الروسي بوتـين عـن الحرية الدينية لسائر بلاده قال: نحن نأذن بتعليم ونشر سائر الكتب الدينية لسائر الديانات إلا التوحيد لأنه يُلغي غيره ولا يقبل المشاركة) وصدق -وهو كذوب- فالدين الإسلامي مهيمن على الأديان ناسخ لها، وتوحيد الله لا يكون مع الشريك.. فوا عجباً ممن الكفار أعلم منه بدلائل توحيده ولوازم عقيدته!

2 ـ البذل والتضحية:
إن روح الإنسان أغلى ما يملكه الإنسان؛ فمن المستحيل أن يضحي بها مقبلاً غير مدبر إلا إذا كانت لديه عقيدة راسخة وأهداف سامية . إن الذي لا يكون في نفسه غير الله يهون عليه ما سواه، فتكون الدنيا بما فيها من مُهج، وما تحمله من زخارف رخيصة لا تساوي لديه شيئاً. هاجر الصحابة رضي الله عنهم وتركوا ديارهم التي ترعرعوا فيها، وأموالهم التي جمعوها، ومساكنهم التي عمروها، كل ذلك تركوه رضاً لربهم وحفاظاً على عقيدتهم.. قدموا دماءهم رخيصةً في الغزوات والمعارك ليبقى الدين كله لله، مؤمنين بالغيب، مصدقين بالوعد، راغبين بجنة عرضها السموات والأرض أعـدت للمتـقين.. قـدموا أمـوالهم رخيـصة في سبيل الله لا يريدون بها من الناس جزاءً ولا شكوراً: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9].

إن الذين تربوا في العهد المكي كانوا قاعدة الإسلام، وقطب رحاه، منهم: الخلفاء الراشدون، والقادة الفاتحون، والأئمة المهديون، والدعاة المصلحون.. فأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

3 ـ الثبات:
إن أصحاب العقيدة الراسخة والتوحيد الخالص أثبت الناس جناناً، وأصلبهم عوداً، وأقواهم عريكة، وذلك أن أثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً... وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبِّت الله بها عباده في الدنيا والآخرة. وحين ننظر في التاريخ نرى كيف تعصف الفتن بالناس ثم تتكشف عنهم مظهرةً ثبات أهل العقيدة والتوحيد، وهذا ما خرج به صاحب كتاب (الثابتون على الإسلام أيام فتنة الردة) حيث ظهر له أن من أعظم أسباب ثبات هؤلاء أربعة أمور، أولها: (رسوخ العقيدة الإسلامية في نفوسهم).

إن طريق الدعوة والجهاد فيه من المشقة والجهد ما يحتاج معه إلى صبر وثبات والذي لا عقيدة له، لا يمكن أن يثبت في ميدان الجهاد، ولا يمكن أن يجاهد كما يجاهد الرجال. وقد كان من أهم أسباب انتصار العدو الصهيوني على العرب في حرب سنة 1967م هو تمسك الصهاينة بعقيدتهم وتخلِّي العرب عن عقيدتهم، فكان المقاتل الصهيوني يقاتل وفي جيبه التوراة، والمقاتل العربي يقاتل وفي جيبه تصاوير الفنانين والفنانات، فانتصرت العقيدة الفاسدة على من لا عقيدة لهم.



ذلك المؤمن المجــاهد يغشى*** غمرة الحرب، والردى يخشاه
تحت ظل السيوف ماضٍ قويٌّ *** درعـه: لا إله إلا الله

المصدر: المختار الإسلامي - إبراهيم بن صالح الدحيم