الإنصاف عزيز!

ملفات متنوعة

{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}



تخبط المسلمين وفساد المنهج الفكري
من الأمور التي يلاحظها المرء على كل من انتسب إلى الإسلام ثم إختار لنفسه منهجاً فكرياً غير المنهج الإسلامي كأساس لإقامة التصورات والمفاهيم: أنه يعيش معضلةً ومشكلة مستمرة مع الذات أو مع غيره من أفراد المجتمع الإسلامي من حوله:

فأما الصراع الذاتي:
فبكونه غير قادر على تحقيق الانسجام بين منهجه الفكري والمعايير المأخوذة من هذا المنهج وما يبنيه عليها من قرارات وتصورات من جهة، وبين قناعاته الذاتية القديمة القائمة على الأصول والقيم والمبادئ الإسلامية العامة من جهة أخرى، وذلك بسبب إحساسه المستمر بوجود خلل ما في هذه القرارات والتصورات التي تفرضها مفاهيم وأسس ومعايير وقيم أي منهج فكري غير الإسلام، سواء كان هذا المنهج مما لم تظهر بوضوح مخالفته للشرع فضلاً عن المناهج الواضحة المخالفة، فهو في حالة دائمة من عدم الاستقرار والتناقض حتى وإن لم يكن يعلم سبب هذا التناقض.


وأما في حالة التصادم مع القيم المجتمعية:
فيكون دائماً مرفوضاً من أغلبية أفراد المجتمع بسبب انحراف أفكاره -من وجهة نظرهم- واعتبارها مصادمة لأمور هي عندهم من المُسَلـَّمات الإسلامية، وإن لم يكن كثير منهم يعلم كبير حجة أو برهان في سبب هذه المخالفة. هذا بفرض التزام هذه الأغلبية بالمبادئ العامة والأمور الإجمالية التي بيـّنتها شريعة الإسلام.

إلا أن هذا لا يعني أن هناك من لم يتجاوز هذه المرحلة من الإحساس بالتناقض والصراع مع الذات إلى مرحلة التعايش السلمي بين معايير هذا المنهج غير الإسلامي وبين تصوراته وما "يؤمن" به، وذلك بعد أن جعل الثانية تابعة للأولى، حيث جعل مفاهيم وقيم المناهج الفكرية غير الإسلامية "أصلاً" محكماً ثابتاً غير قابل للتأويل أو التغيير، ثم يعتمد عليه في حل أي إشكال يقع فيه أو تناقض يشعر به مع القيم الإسلامية، ويحاول التوفيق بينهما بأن يقرر ألا تناقض بين هذه وتلك، فيفسر مدلولات القيم الإسلامية وحدودها تبعاً لمعايير المنهج غير الإسلامي وقيمه فيجعل من الأخيرة "حاكمة" على الأولى ومبيّنة لها، فينتهي به الأمر كثيراً إلى أن يرفض من الإسلام ما هو منه أو يجعل من الإسلام ما ليس منه.

وذلك لا يتم له إلا بعد أن يقرر اعتبار القيم "الدينية" (الإسلامية) جميعها مجرد قيمٍ نسبية لا حقائق لها ولا ضوابط فيها، إما جهلاً منه بالكليات الشرعية التي يقررها الإسلام كمنظومة من القواعد لضبط المفاهيم وتحديد مدلولات الألفاظ وبالتالي التصورات العامة القائمة عليها بشكل يمكن معه الوصول إلى معرفة "حقائق" كونية يقينية في كثير من القضايا الفكرية كجزء من شمول الإسلام لجميع النواحي الحياتية للإنسان، أو اقتناعاً منه -وليس جهلاً كالأول- بأنه لا وجود لقوانين وضوابط أو حقائق ثابتة في القيم الإسلامية، وإنما هي مجرد قيم نسبية مجملة لا ضوابط فيها لتحديد ما تتضمنه من أفعال وسلوكيات أو تصورات ومفاهيم، وهذا عادة ما يكون رغبة منه في سلب هذه "السلطة" من النصوص الإسلامية لمخالفتها هواه وما يحب أن تكون عليه حقيقة الأمور، فاجتمع لهذا وذاك فساد العلم (مع اختلاف سبب فساده) والعمل بعلم فاسد ففسدت لهما بسبب ذلك النتيجة وهي التصور المبني على هذا العلم والسلوك المبني على هذا التصور.


وفساد العلم هنا من فساد مصادر (تلقي) المعرفة عندهم بالمقارنة بغيرهم ممن يعاني من نفس الأعراض المزعجة مع اختلاف السبب، فهناك من يقوم بالتجاهل المجرد لمرارة هذا التناقض وألمه الذي يجده في قلبه، وهذا يكون -في الغالب- أرجى في العودة إلى المبادئ الإسلامية الصحيحة بالعمل على زيادة القوة الرافضة في القلب لهذه المرارة وهذا الألم، حتى تدفعه إلى أن ينزع عن نفسه سببها من الجهل بالجزئية المطلوب معرفتها من الإسلام، والتي بها يزول عنه إشكاله الذي يجد مرارته في صدره، وغالباً ما يُؤتى هؤلاء من التكاسل أو الكبْر والعناد عن الأخذ بأسباب العلم وإزالة الجهل عن أنفسهم.

ولكن ينبغي قبل الخوض في هذا الأمر توضيح ما يلي: أننا عندما نتحدث عن "المعايير" التي بها تتكون التصورات فإننا لا نعني بها المعايير التي بها تكون المعرفة بحسن الصدق والعدل والرحمة والوفاء والأمانة، أو حسن النظافة وإتقان العمل والإحسان إلى الجار وبر الوالدين وغيرها من فضائل الأخلاق، فهذا أمر لا يختلف في حسنه اثنين من العقلاء، حتى من عُرف بالفجور والفسق فإنه يُظهر استحسانه لهذه الأفعال ولا يُعلن استقباحه لها إلا إذا اشتد في غيّه وانحرافه فتبدلت فطرته حتى جاهر باستحسانه للمنكر الخالص أو استقباحه للحق البيّن.


وإنما نعني بالمعايير هنا: المعايير التي بها تكون القدرة على التمييز بين الأفعال والسلوكيات أيّها يكون صدقاً وأيها يكون عدلاً، وأيّها يكون شجاعة أو يكون كرماً أو يكون رحمة، وما الذي يجعل هذا الفعل حكمةً وغيره حمقاً أو يجعل ذاك حقاً وهذا باطلاً؟

فالمراد هنا هو "المعايير" التي إذا اختلفت من فرد إلى آخر كان بسبب هذا الاختلاف أن يكون أمرٌ مثل الحجاب عند البعض أمراً مستحسناً وعند آخرين -لا نقول من غير المسلمين بل من المسلمين- أمراً مستقبحاً منفـّراً بل وليس من الإسلام في شيء!

أو يجعل سب الله تعالى أو الكفر به أمراً يستهجنه البعض وتنتفض له أبدانهم إنكاراً واستقباحاً، ولا يجد فيه آخرون كثيرَ نكارةٍ بل ويدافعون عن الفعل وفاعله ويسوّغونه ويعتبرونه من الأمور التي تدخل تحت عموم مبدأ مثل "حرية التعبير وإبداء الرأي"!

أو ما يجعل العلاقات -سواء الاجتماعية أو العاطفية- بين الجنسين خارج نطاق الزواج مرفوضة عند البعض ولا بأس بها عند آخرين ثم يتهم الأولُ الثانيَ بالانحلال والتفسّخ الأخلاقي ويتهم الآخرُ الأولَ بالرجعية والجمود والتشدد؟


والأمثلة للمعنى المقصود كثيرة ونظن أن المعنى المراد قد تم توضيحه، وهذا هو محل النزاع بيننا وبين من انتهج غير الإسلام منهجاً لتحديد التصورات وضبط السلوكيات وإدراج سلوك معين من الفضائل وجعل غيره من المعايب مع الاتفاق على حُسن الحَسَن وقـُبح القـَبيح من القيم العامة المختلفة.

وعندما أقول أن من انتهج في هذا الأمر غير الاسلام منهجاً فهو مخالف فأنا أدّعي بأن الإسلام قد وضع ضوابط ومعايير عامة تساعد المسلم على معرفة الفضائل من المعايب بشكل ينتفي معه هذا النوع من أنواع الخلاف الصارخ الذي يجعل من ذات الفعل عند البعض حسناً وعند الآخر قبيحاً، وهو ما يسمى بالاصطلاح الشرعي: خلاف التضاد، وموضوع الخلاف هو المعروف والمنكر.

والمراد هنا من المعروف والمنكر: ما جعله الشرع معروفاً وما جعله الشرع منكراً، وبالتالي يثيب على فعل الأول ويعاقب على فعل الثاني، وهذا ما يوجب كون هذه الأمور أموراً متفق عليها بين المسلمين وإلا فلا يمكن القول بأن ذات الفعل يثاب عليه ويعاقب عليه ويكون هذا الأمر مما "لا يفسد للود قضية"! فإن ذلك يستلزم تناقض التشريع، وبالتالي يجب أن تكون هذه المعايير ثابتة في الشرع مما يجعل في النهاية من "المعروف" و"المنكر" أمراً متفقاً عليه عند جميع من دان لله بالإسلام، فلا يختلف اثنين من المسلمين على حسن المعروف وقبح المنكر إلا من فسدت لديه هذه المعايير.

فكيف نميز بين ما هو معروف وما هو منكر؟ وهل لا بد من الاتفاق في هذه الأمور أم أنها من الأمور التي يسوغ فيها الخلاف ولا ينبغي فيها الإنكار على المخالف وأن نتقبله فيها من باب "قبول الآخر" أو هي من "الاختلاف في الرأي الذي لا يفسد للود قضية" ؟


أنواع الخلاف
لابد من الاتفاق أولاً أن الاختلاف سنة من سنن الله تعالى في الكون:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود:118]
وقال تعالى:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم:22]

وكما جعل الله تعالى الخلاف سنة من سننه في الكون فقد ذم بعضه:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن:2]
وقوله تعالى: {هَـٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } [الحج:16]
وقال تعالى: {فَذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } [يونس:32]

وإذا تقرر ذلك فينبغي بيان أن المراد من هذا النقاش هو بيان أنواع الخلاف من جهة، والتأكيد مرة أخرى على محل النزاع في المسألة: وهو النوع الذي لا يسوغ منها في القضايا التي ينبغي فيها القول بقول واحد وإلا كان الأمر متناقضاً تناقضاً مخلاً بالمعرفة.


وليزداد وضوح المسألة نمثل بالمثال التالي:
لا يختلف اثنين من العقلاء أن الخشب مادة صلبة، فإذا جاء أحدهم فقال بأن الخشب من الموائع، استقر في القلب أحد ثلاثة أمور:
1- إما أنه يعني بلفظة "الخشب" أمراً آخر غير ما نعلمه نحن عن "الخشب" المعروف.
2- وإما أن لديه علة ما في عقله وإدراكه أحالت بينه وبين هذا الإدراك المعروف.
3- وإما أن يكون سليم العقل ويقصد من اللفظة ما نعلمه من المعنى المعروف فيكون حينئذ مُضلـِّلاً مغالطاً يبتغي بتلبيسه المعرفة على الناس إما: طلب شهرة، أو كبر وعناد، أو هوى ... الخ.

وهذا النوع من الخلاف يسمى - كما بيـّنا- في الاصطلاح الشرعي باختلاف التضاد، وهو الخلاف الذي يتناول حقيقة ما بشكل متناقض فينفيها البعض ويثبتها آخرون، وهو نوعين: خلاف سائغ غير مذموم وخلاف غير سائغ مذموم، والثاني هو محل النزاع:


يقول الشيخ ياسر برهامي في كتابه "فقه الخلاف بين المسلمين": اختلاف التضاد هو:
"أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه، وهو أن يكون في الشيء الواحد قول للبعض بحرمته وللبعض بحله -من جهة الحكم لا من جهة الفتوى-، فالحكم أن يقال: هذا الفعل حرام، كشرب قليل النبيذ المسكر كثيرُه غير عصير العنب، والمخالف يقول: قليله حلال، وليس من جهة الفتوى، كإنسان في حالة ضرورة ومخمصة لم يجد إلا ذلك النبيذ ليسد رمقه فهو حلال له في هذه الحالة كفتوى، أما الحكم العام فهو حرمته عند من يقول بذلك."

وهو نوعين:
النوع الأول: الخلاف السائغ غير المذموم: يقول الشيخ حفظه الله:
"كثير من العلماء يقيده بأنه الخلاف في الفروع، أي من الأمور العلمية لا الاعتقادية، والصحيح أن يقيد بأنه: ما لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماعاً قديماً أو قياساً جلياً، وهذا سواء أكان في الأمور العملية الاعتقادية -وهذا نادر- أم في الأحكام بين الفقهاء".

والنوع الثاني: الخلاف غير السائغ المذموم: قال:
"وكثير من أهل العلم يضبطه بأنه الخلاف في الأصول أي في العقائد، والصحيح أن يقيد بأنه ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جليّاً لا يُختلف فيه، سواء أكان في الأمور الاعتقادية العلمية -وهذا أكثر أنواع هذا الاختلاف- أم في اللأمور العملية الفقهية، فإن كثيراً من مسائل الفروع (الأحكام) فيها نصوص من الكتاب والسنة والإجماع بل قد يكفر المخالف فيها، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحرمة الزنا والخمر، وهذه من مسائل الأحكام المسماة عند الكثيرين بالفروع، وقد يبدع المخالف فيها كإنكار المسح على الحفين والقول بجواز نكاح المتعة". اهـ

ونذكر من أمثلة الخلاف غير السائغ ما ذكره الشيخ ياسر في كتاب فقه الخلاف بتصرف:
"في الأمور الاعتقادية والعلمية: أولاً: ما يكفر به المخالف:
1- غلاة النفي والتعطيل في أسماء الله وصفاته: كالباطنية بأنواعها كالعبيديين (الفاطميين) والدروز والنصيرية والإسماعيلية، وكذا الفلاسفة المنكرين لذات الرب سبحانه ولخلق العالم وحقيقة البعث للأجساد، وكذا غلاة الجهمية المكذبين لصريح القرآن ... فكل هؤلاء الفرق خارجة عن الملة نوعاً وعيناً أئمتهم وعوامهم بلا خلاف لمخالفتهم للقطعي المعلوم من الدين بالضرورة.
2- الحلولية والاتحادية: المصرحون بأن ذات الرب سبحانه هي ذوات المخلوقين أو هي عين ذواتهم حتى الكلاب والخنازير والأصنام ولا خلاف في كفر هؤلاء.
3- من يعتقدون بآلهة مدبرة للعالم مع الله تعالى في الضر والنفع والإحياء والإماتة والشقاء والسعادة والشفاء والرزق والأمر والنهي والتشريع ثم يصرفون لها العبادة كغلاة الصوفية.
4- ..."

ثم قال بعد الانتهاء من سرد الأمثلة:
"هذه المسائل مما لا يختلف أهل السنة في تكفير المخالف للحق فيها، إلا أن ضابط الفرق في تكفير النوع (القاعدة العامة: الحكم) والعين (الشخص القائل بعينه: الفتوى) عندهم هو انتشار الأمر واستفاضة العلم به بين العامة والخاصة، وهو ما يسمى بالمعلوم من الدين بالضرورة ... "
ثم قال حفظه الله:
"إلا أن ذلك لا يعني أنه إن وجد من يحتمل جهله بشيء منها في بعض الأقطار فلا بد من تكفيره بعينه، بل ربما وجد في بعض هذه المسائل احتمال في كثير من البلاد مثل مسألة عدم كفر اليهود والنصارى، فإن الشبهة فيها تقوى لدى الكثيرين من جراء ما يضلل به المجرمون الزنادقة وما يموه به مشايخ الضلال أتباعهم من المحبة والمودة والمساواة بين هذه الملل ..."

ثم قال:
"ولكن الشبهة يمكن أن تدخل بعض الطوائف التي تشربت مبادئ العلمانية وما يسمونه بالوحدة الوطنية ووحدة الهلال مع الصليب ونحوها من الشعارات، فإقامة الحجة في مثل هذه المسألة يكون بتلاوة قوله تعالى: { لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة:72]
وقوله تعالى: {لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة:73]
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ﴿١٥٠﴾ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [النساء:150-151]

ولمن أراد الاستفاضة في هذا الأمر فليرجع لأصل الكتاب ففيه التفصيل الكافي لبيان هذه المسائل.


الحاصل
هو أن الخلاف في الدين والتفرق فيه بعد كماله وتمام النعمة به وبما جاءنا فيه من العلم من الله تعالى هو من الأمور المذمومة في شرع الله تعالى، والاجتماع والاتفاق هو ما أمر الله تعالى المسلمين به، ولا يكون الاتفاق بينهم إلا إذا رجعوا في حل إشكالاتهم أو خلافاتهم وتنازعاتهم إلى حُكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: كما قال تعالى:
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء:59]

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"وقوله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد : أي إلى كتاب الله وسنة رسـوله . وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الديـن وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعـالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] فما حكـم به الكتـاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال تعـالى : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي ردوا الفصـل في الخصومات والجهالات إلى الكتاب والسنة ومن لا يرجع إليهما في ذلـك فليس مؤمنًا بالله ولا اليوم الآخر. وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي التحـاكم إلى كـتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والرجوع إليهما في فصل النـزاع خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } أي وأحسن عاقبة ومآلاً كما قال السُدّي وقال مجاهد: "أحسـن جزاء" وهو قريب. وفي كتاب الله آيات كثـيرة وردت في وجـوب الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع إليهما في كل الأمور" اهـ


قال السعدي رحمه الله :
"أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله: فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما: أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما."

وقال تعالى : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65]

قال شيخ الإسلام محمد بن علاء الدين بن محمد بن أبي العز الحنفي في "شرح العقيدة الطحاوية" للعلامة أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في شرح قول الإمام الطحاوي: "ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً":
"والإختلاف الثاني: هو ما حُمد فيه إحدى الطائفتين وذُمَّت الأخرى، كما في قوله تعالى:
{وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } [البقرة:253]
وقوله تعالى: {هَـٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } [الحج:16]

فحقيقة مفهوم الكفر والإيمان والحلال والحرام والحق والباطل والعدل والظلم والرحمة والقسوة والمشقة والتيسير والإفراط والتفريط والتشدد والتسيّب وما هو من دين الله وما ليس منه إنما يكون كما حدَّه الله تعالى في كتابه، وكما بيـّنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته قولاً وعملاً وإقراراً، وهو السبيل الوحيد للنجاة ولا يقال حينئذ للداعي له أنه يدّعي امتلاك "الحقيقة المطلقة" ولا يقبل "الرأي الآخر"!


19 جماد الأول 1432 هـ | 22 ابريل 2011 م
 


المصدر: كريم محمود القزق - خاص بموقع طريق الإسلام

<