المعركة الأخيرة لأسامة بن لادن

ملفات متنوعة

إن قتل الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله على يد الأمريكان لن يحقق غير المزيد من الحضور والرمزية لرجل قاتل الإمبرياليَّة الأمريكيَّة دون هوادة، تمامًا كما كان حال جيفارا من قبل، مع فارق البعد الديني في حالة بن لادن.



دفنوه في البحر على الطريقة الإسلاميَّة كما قالوا، ولا نعرف كيف يُدفن الناس في البحر على الطريقة الإسلاميَّة، لكنهم إنما فعلوا ذلك لكي يشعروا بالارتياح بعدما أرهقهم الرجل في مطاردته سنواتٍ طويلة.

ليس مهمًّا الحديث عن طبيعة الصفقة الباكستانيَّة الأمريكيَّة التي أفضت إلى قتل أسامة بن لادن رحمه الله، ولا عن تفاصيل العمليَّة التي أرادوها استعراضيَّة بيدٍ أمريكية لكي يختتم المشهد كما في أفلام هوليود بانتصار البطل الأمريكي.

والحق أن الانتصار هنا لم يكن من نصيب البطل الأمريكي لو كان التقييم عاقلا وموضوعيًّا، ولا يركِّز على المشهد الأخير فقط لا غير، لا سيَّما أننا لا نتحدث عن منازلة بين قطبين أو إمبراطوريتين، وإنما بين أكبر إمبراطورية في التاريخ البشري، وبين رجل معه ثلَّة من الرجال لا يستطيعون مواجهة دولة صغيرة، فضلا عن إمبراطورية كبيرة.


ربما كان بوسعنا الإشارة ابتداءً إلى استدراج أمريكي لأسامة بن لادن نحو مسار العنف من جديد بعد رحلة هدوء في السودان خلال النصف الأول من التسعينات، الأمر الذي يرتبط بأجندة البحث عن عدو جديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهنا لا يختلف عاقلان على أن أسامة بن لادن قد ترك مسار العنف المسلَّح في المرحلة السودانيَّة، وبدأ يعمل في المقاولات، لكن الضغوط الأمريكيَّة على السودان هي التي دفعت النظام إلى ترحيله وثلة ممن معه، فلم يكن لديه من خيار سوى اللجوء إلى دولة طالبان التي كانت قد أُقيمت حديثًا، وليبايع هو ومن معه الملا محمد عمر بوصفه أميرًا للمؤمنين.

لكن هذه اللعبة، لعبة استدراج بن لادن نحو مسار العنف، ما لبثت أن انقلبت على أصحابها، فقد تحالف الرجل إثر ذلك مع بقايا تنظيم الجهاد المصري في الخارج بقيادة أيمن الظواهري، وأنشأ الجبهة الإسلاميَّة العالميَّة لقتال اليهود والصليبيين، قبل أن تتحول عمليًّا إلى تنظيم القاعدة، ولتشرع في سلسلة عمليات ضد أهداف أمريكيَّة كان أبرزها تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في نيروبي ودار السلام عام 98، وتفجير المدمرة "يو إس إس كول" في ميناء عدن عام 2000، والتي توّجت بهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.


والحال أن استهداف الولايات المتحدة من قِبل أسامة بن لادن لم يبدأْ من دون تنظير سياسي واضح، يتمثل في القول بأنها الدولة التي تدعم الكيان الصهيوني والأنظمة الفاسدة في العالم العربي، وهي بالتالي العدو الأكثر شراسةً للأمَّة.

حدث هذا بالطبع قبل احتلال أفغانستان والعراق، وليكون العرض السياسي الدائم عليها من قِبل بن لادن أن تكفَّ عن عدوانها لكي تتوقف الحرب.

جاء الرد الأمريكي على هجمات الحادي عشر من سبتمبر طاعنًا في الرعونة، لا سيَّما أنه ارتبط عند جورج بوش بهواجس الدولة العبريَّة والأساطير التوراتيَّة، فيما كان بوسعه (أعني بوش) استثماره على نحو مختلف، فكانت النتيجة غزوًا لأفغانستان وآخر للعراق لا مبرِّر له على الإطلاق، بدليل اعتراض أكثر دول العالم عليه، بمن فيها عدد من الدول الحليفة للولايات المتحدة.


وفيما كانت أدبيات القاعدة تتحدث عن استدراج أمريكا إلى مستنقع أفغانستان لتدميرها مثل الاتحاد السوفييتي، فإن أحدًا لم يتخيلْ أن تستدرج أيضًا إلى مستنقع العراق، وفي المستنقعين استنزفت ماليًّا وبشريًّا كما لم تستنزفْ من قبل (أثر ذلك تأثيرًا مهمًّا على نفوذها الدولي، بدليل وضعها القائم حاليًا قياسًا بما كان عليه حالها مع نهاية ولاية كلينتون وبداية ولاية جورج بوش الابن)، وكان بن لان في ذكرى هجمات سبتمبر خلال السنوات الأخيرة يذكّر دائمًا بخسائر أمريكا التي منِّيت بها بعد الهجمات، لا سيَّما على الصعيد المالي، مشيرًا إلى الأرقام الفلكيَّة لتلك الخسائر، وبالطبع في سياق من التأكيد على أنها عمليًّا من نتائجها، مع العلم أن التنظيم قد شارك بقوة في معركة العراق، بل إنه هو الذي أطلقها، بينما كانت مشاركته محدودة في أفغانستان إلى جانب حركة طالبان التي تكفَّلت بالمعركة ولا زالت.


يشير البعض أن الذين أطلقوا المقاومة في العراق ضد الاحتلال لم يكونوا من تنظيم القاعدة، وهو صحيح إلى حد، إذ أنهم كانوا من تنظيم التوحيد والجهاد، بقيادة (أبو مصعب الزرقاوي) الذي التحق بالقاعدة وبايع زعيمها بعد ذلك، لكن من المفيد القول أيضًا بأن عمل الزرقاوي ونشاطه (في شقه العراقي) كان جزءًا من الأجواء الجهادية التي صنعها تنظيم القاعدة في المنطقة بعد هجمات سبتمبر.

هذا هو البعد الأصيل في برنامج القاعدة التي كانت مجموعتها الرئيسة (بقايا تنظيم الجهاد المصري بقيادة الدكتور أيمن الظواهري) قد تحوَّلت من جهاد العدو القريب (النظام المصري) إلى جهاد العدو البعيد (الولايات المتحدة) بوصفها العدو الأكبر للأمَّة الإسلاميَّة بدعمها للكيان الصهيوني وتبنِّيها الأنظمة الفاسدة، أما البعد الطارئ فقد تمثل في قتال الأنظمة كما في نشاط المجموعات التي انتسبت تاليًا للتنظيم كما هو حال القاعدة في المغرب الإسلامي والجماعة الليبيَّة قبل مراجعاتها، وكذلك الحال في اليمن وجزيرة العرب والصومال.


في هذه الدول ودول أخرى نفّذت القاعدة عمليات إشكاليَّة كثيرة من بينها عمليات الفنادق في عمان وعمليات الدار البيضاء، فضلا عن عمليات ضد مجمعات سكنيَّة في المملكة العربيَّة السعوديَّة (ينطبق ذلك على استهداف المدنيين في لندن ومدريد)، وقد بات هذا المسار أكثر رفضًا من قبل الجماهير بعد أن ثبت أن بوسعها الإطاحة بأعتى الأنظمة من خلال النضال السلمي الذي تشارك فيه الملايين كما في تونس ومصر، الأمر الذي لم يكن ممكنًا بعضلات التنظيمات المسلَّحة مهما بلغت قوتها، بل إن بعض الدوائر السلفيَّة الجهاديَّة قد نشطت بطرق سلميَّة كما هو الحال في الأردن ومصر وليبيا، وتابعنا نشاطات سلميَّة للسلفيين الجهاديين في الأردن، بل لقد قد قرأنا مؤخرًا لكبير منظِّري تيار السلفيَّة الجهاديَّة (أبو محمد المقدسي) كلامًا يشيد فيه بالثورة السوريَّة، ويعتبر أن الديمقراطيَّة التي قد تقوم بعد نجاحها ستكون مقدمةً لحكم الإسلام.


في ضوء ذلك يمكن القول بأن التنظيم كان في مرحلة التراجع قبل مقتل أسامة بن لادن، أولا على صعيد العمل ضد الاحتلال الخارجي بسبب قيام طالبان بالمهمَّة في أفغانستان، وتراجع وضع التنظيم في العراق لأسباب أمنيَّة وأخرى ذات صلة بالصدام مع قطاعاتٍ كبيرة من البيئة الحاضنة (العرب السنَّة)، وهامشية حضوره في فلسطين باستثناء غزة حيث تندر فرص المقاومة.

وثانيًا على صعيد العمل المسلَّح ضد الأنظمة، الذي يعدّ هامشي التأثير إلى حدٍّ كبير، فضلا عن رفضه من قِبل الجماهير، لا سيَّما بعد نجاح الثورتين في تونس ومصر واندلاع الثورات التالية في اليمن وليبيا وسوريا كما أشير من قبلُ.

يتحدث البعض عن مسألة الخلافة وإشكاليَّتها في التنظيم، الأمر الذي لا يبدو صحيحًا، فهي محسومة إلى حدٍّ كبير لأيمن الظواهري لكن الإشكاليَّة الأكبر تكمن في أن وقوع أسامة بن لادن في الأسر سيعني أن المسبحة ستكر كما تقول التجارب المشابهة في التنظيمات الموغِلة في السرية، ولا يعرف إن كان ذلك سيشمل الظواهري الذي لا يملك بأي حال كاريزما بن لادن، ولا يتمتع بالحب الذي يحظى به بين الأتباع، وفي صفوف الجماهير.


يبقى القول: إن قتل الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله على يد الأمريكان لن يحقق غير المزيد من الحضور والرمزية لرجل قاتل الإمبرياليَّة الأمريكيَّة دون هوادة، تمامًا كما كان حال جيفارا من قبل، مع فارق البعد الديني في حالة بن لادن.


الثلاثاء 29 جمادى الأولى 1432 الموافق 03 مايو 2011 م
 


المصدر: ياسر الزعاترة - موقع الإسلام اليوم

 
 
 
<