حضارة الإسلام في مشهد الجمعة

ملفات متنوعة

ذات يوم جمعة، وقعت حادثة استحقت أن تنزل فيها آيات، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا يخطب، وقد أصاب المدينة مجاعة، فأقبلت عير فيها تجارة، فانطلق الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً..



ذات يوم جمعة، وقعت حادثة استحقت أن تنزل فيها آيات، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا يخطب، وقد أصاب المدينة مجاعة، فأقبلت عير فيها تجارة، فانطلق الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. (رواه البخاري 894، ومسلم 863).
نزلت سورة الجمعة، التي هي -كما كل الآيات القرآنية- لا تعالج الموقف لذاته فحسب، بل تعطي الأمة توجيهًا خالدًا في كل عصورها؛ ولذا فإن النظر إلى سورة الجمعة بعين تقصد أن ترى المعنى الحضاري فيها يُفضي إلى نتيجة جديدة تمامًا، لم تنل حظًّا من أهل التفسير على حد ما أعلم، وإن ظهرت في سياق تفاسيرهم بشكل مُجزَّأ، تلك هي: أن سورة الجمعة إنما نزلت لتُذَكِّر الجماعة المسلمة بتميزها الحضاري، ولتُوَضِّح معالم الحضارة الإسلامية.

التأمل في سورة الجمعة يكشف لنا رؤية أقسام ثلاثة واضحة، متمايزة ومترابطة:
1- أن هذه الأمة المسلمة هي غرس رباني.
2- وأنه معهودٌ إليها أن تستفيد من سيرة التاريخ، وأن تصحح مسيرته.
3- وأن تنتبه إلى رسالتها في الحياة، فتملك الدنيا دون أن تملكها الدنيا.

لقد بدأت قصة الإسلام فجأة، لم يكن ثمة ما يشير إلى أن هذه البقعة المهملة في خارطة التاريخ والجغرافيا آنذاك قد تكون ذات أهمية يومًا ما، فتلك بلاد قبليَّة، أهلها أميون، يعيشون جاهلية في الأفكار والأعمال، ولا يفكرون في إنشاء حضارة؛ ولهذا كان انتقالهم المفاجئ نحو التوحد والسيادة على الجزيرة ثم مجابهة الكبار فارس والروم، ثم امتلاك ناصية العلوم والحضارة، كل ذلك كان بتدخل رباني محضّ، نعمة على هؤلاء القوم لا شريك له فيها.. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].

ولذا، فإن سر هذه الأمة في هذا الدين، فهو الذي نقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الجاهلية إلى السيادة، أو كما يقال: من رعاة الغنم إلى رعاة الأمم.
ورعاية الأمم لا تعني التسلط عليهم ولا قهرهم، بل تعني قيام الأمة بدورها في توصيل الرسالة لهم؛ ذلك أن الرسالة إنسانية عالمية خالدة لم تنزل على العرب لتزرع فيهم بذور عنصرية أو تمييز، بل لتحملهم مسئولية الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وبهذا تكون الأمة أطول عمرًا، وأكثر اتساعًا، وأمضى في تاريخ الخلود؛ فهي أمة نشأت من الفكرة، أنشأتها الرسالة الإسلامية، تمتد في طول الزمان بتتابع الأجيال، وفي عرض المكان باتساع البلدان. { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3].


ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية أشار إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال: « لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال أو رجل من هؤلاء » (رواه البخاري 4615). وسلمان رضي الله عنه من غير العرب، من فارس؛ ولذا قال العلماء بأنها تعني كل من صدَّق النبي من غير العرب. ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/116... فهذا هو اتساع المكان.

وأما طول الزمان ففي حديث آخر، يقول عليه الصلاة والسلام: « إن في أصلاب أصلاب أصلاب أصلاب رجال رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ : {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}»، (رواه الطبراني 6005، وابن أبي عاصم في السنة 243، وقال الهيثمي: إسناده جيد، وصححه الألباني في ظلال الجنة 309).

وهذه الأمة على كثرة الأجناس والأقوام، وعلى تتابع الأزمان والأجيال، تبقى عربية الروح والثقافة، تلتف حول اللسان العربي، وهذا معنى دقيق فقهه الشيخ الطاهر بن عاشور من الآية وقال: بأن { مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } هي بمعنى الاتصال، أي أن العرب وغيرهم، والجيل وغيره، أمة واحدة متصلة ببعضها، ثم إنهم يلحقون بالعرب أي يتعربون لفهم الدين وتلاوة القرآن، وهي بشارة غيبيَّة بأن دعوة النبي ستبلغ أممًا غير عربية، وأنهم يحتضنونها ويلتحقون بالعرب، (الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 28/212).


من كان يحلم بشيء من هذا الخلود والتفوق والسيادة من العرب المقيمين بالجزيرة في القرن السادس الميلادي؟! لا أحد بكل تأكيد.. { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الحديد: 21].

وهنا، بهذا التأكيد، ينتهي المقطع الأول من سورة الجمعة، ليعرف المسلمون أنهم أمة نشأت بنعمة الله وفضله، وأن هذا الدين هو سر نهوضهم، وبه كان تفوقهم وخلودهم.

ويأتي المقطع الثاني الذي يُعطي الأمة خلاصة التاريخ الذي ينبغي أن تستفيد منه، وأن تصحح مسيرته، تاريخ قوم حملوا أمانة الرسالة من قبل فلم يحفظوها، فلهذا نقل الله رسالته إلى هذه الأمة.


إنهم بنو إسرائيل، آتاهم الله التوراة { فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [المائدة:44]، وفيها هذا النبي الأمي {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف:157].. إلا أنهم لم ينتفعوا بها؛ إذ لم تتهذب عقائدهم ولا أخلاقهم، فضرب الله لهم هذا المثل: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة:5].

ولهذا ينبغي أن تفهم الأمة أن حضارتها حضارة عمل وتطبيق لا مجرد تنظير وتقعيد، حضارة وعي وفهم وتشرب للمنهج لا مجرد الاحتفاظ به وحمله في السيارات والمكتبات، أو حتى تلاوته في المحافل والمناسبات فحسب.

والتشبيه بالحمار الذي يحمل الأسفار تشبيه مركب؛ فالحمار لا يعرف قيمة ما يحمله أصلاً، غير أنه لن ينتفع بها حتى ولو نشرت أمام عينيه، فكأنما بلغ بنو إسرائيل حد الإياس من انتفاعهم بما أنزل عليهم، (محمد الأمين الشنقيطي: تفسير أضواء البيان 8/196).
وهذا مثل مضروب للأمة المسلمة، لتعلم به أن مكان القرآن في حياتها هو مكانه من العمل والتنزيل والتنفيذ، وأن منهجها يجب أن يكون في روحها ووجدانها لا في السطور أو الصدور وحدها!


في هذه الحالة يكون القرب من الله واستحقاق الصلة به مرتبط بهذه الأمانة، ولا يكون ثمة مكان للادعاء الفارغ أو زعم الخيريَّة أو مباهاة الناس بالباطل.. بل يكون القرب من الله وحمل رسالته مصحوبًا بما يؤكده من عمل وتطبيق وجهاد، حتى لو أنه جهاد يتطلب ذهاب النفس في سبيل الرسالة.
كل هذه الأمور لم تكن عند اليهود.. { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 6-8].

وهنا، وبهذه الحقيقة القائمة الراسخة.. حقيقة الموت، ينتهي هذا المقطع من السورة، وقد كان يقدم للأمة المسلمة خلاصة تاريخ أمة سابقة، لكي تعرف منه خصائص رسالتها وحضارتها، فتقوم بتصحيح المسيرة، وتضرب المثل للأمة التي حملت الرسالة بحق، فكانت خير أمة أخرجت للناس.

ثم يأتي المقطع الأخير الذي نزلت لأجله السورة نفسها، وفيه التنبيه على أن هذه الأمة تنظر إلى الآخرة أكثر من الدنيا، مع احتفاظها بالتوازن المطلوب بين الدنيا والآخرة، ولهذا فإن ثمة لحظات بعينها ينبغي أن تصفو فيها الأمة من الدنيا، وأن تتركها إلى حيث يُذكر الله.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الجمعة: 9].


رغم أن البيع ليس حراما {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } [البقرة:275]، بل هو مطلوب كسائر أعمال الرزق الحلال؛ لكن هذه اللحظة ليست كغيرها، حتى قال ابن كثير: "اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني -حيث يكون الخطيب قد صعد-، واختلفوا: هل يصح؟ وظاهر الآية عدم الصحة. (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/122).

فهي لحظة خاصة واستثنائية في حياة الأمة المسلمة، والعجيب أنه جلَّ وعلا ذكر (البيع) ولم يذكر أي نشاط آخر للمسلم، ذلك أن البيع هو عملية الربح والحصول على المال، وبرغم هذا فإن ترك هذا البيع والذهاب للجمعة {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }.

وحيث إن الآخرة هي الغاية، وهي المعيار، إلا أن الإسلام منهج متوازن.. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

فحتى الخروج للدنيا وابتغاء الرزق ينبغي أن يكون مصحوبًا بذكر الله ذكرًا كثيرًا.. إلا أن تعبير { قُضِيَتِ الصَّلاةُ } يوحي بمعنى الإتقان، إعطاء كل ذي حق حقه، أي بعد استيفاء الصلاة يمكن للمسلم أن يخرج في طلب الرزق. ولهذا لم يكن التنديد القرآني لمن طلب الرزق في القافلة، بل كان لمن ترك الصلاة لأجل ما في القافلة، فانصرف قبل اكتمالها.. { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].


كان عرَاك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين. (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/122، 123).

هذا أصدق تعبير عن العقلية المسلمة التي تؤمن بأن الله فوق كل شيء، وأن ما عند الله هو خير مما يبدو لنا أنه خير.
بقي ملمح آخر للحضارة الإسلامية كما ظهرت في سورة الجمعة، وهو ملمح كامن ومنتشر في كل السورة، ومسيطر على روحها، ذلك هو أمر التوحيد.

إن اسم الله جل وعلا ذُكِر في كل آية من آيات السورة، وهذا يعني -بشكل واضح- أن هذه الحضارة مركزها الله تبارك وتعالى، فهو صاحب الوجود {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 1]، وهو صاحب الغرس {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً} [الجمعة: 2]. وهو الذي شرع الشرائع وكلف بالأعمال (فاسعوا.. ذروا.. فانتشروا.. ابتغوا). وهو الذي يعلم الغيوب والخفايا {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. وهو الذي يضمن المستقبل {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الجمعة: 11].. هذه المركزية للتوحيد ظاهرة في كل إنتاج الحضارة الإسلامية، من الأفكار والتوجهات وحتى الزخارف الفنية.
 


المصدر: محمد إلهامي - مجلة الوعي الإسلامي، العدد 551، رجب 1432هـ/ يونيو 2011م

<