بذل النفس في الثورة السورية

الشيخ ناصر بن سليمان العمر

قال صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» [البخاري:6862].


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين وبعد:

فقد ألح عليّ عدد من طلاب العلم في سورية بأن أجيب على سؤالهم عما يجري في بلدهم, وقد اعتذرت مرارًا منذ بدأت الأحداث, و كنت أحيلهم على ما صدر من بيانات (رابطة علماء المسلمين) والرجوع إلى علمائهم ولكن أمام شدة الإلحاح وخوفًا من كتم العلم وبخاصة مع ما يخشى من اختلاف في المواقف يتبعه اختلاف في القلوب, كانت هذه الوقفة التي رجعت في تحريرها لعدد من طلاب العلم قبل إخراجها فأقول مستعينًا بالله سائلاَ منه التوفيق والسداد.

فصل النزاع في هذا المسألة مبناه على استحضار أن أولى الضروريات الخمس حفظ الدين، يليه حفظ النفس، وحرمة النفوس المعصومة عظيمة لا يجوز إهدارها، قال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وقال صلى الله عليه وسلم: « لا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا » [البخاري:6862].


وإنما يسوغ بذل النفس لمصلحة الدين، ولهذا شرع الجهاد وكان من أعظم القرب مع أن فيه عطب النفوس وإتلافها، ولا يجوز للمرء أن يغرر بنفسه في غير مصلحة إعلاء كلمة الله بل الواجب عليه حفظ النفس، والثورات الشعبية التي تخلع أمثال هذا النصيري الباغي إذا هي كانت، لا تسمى جهادًا لذاتها إذا لم تكن ثمة راية شرعية واضحة ترمي لإقامة حكم الله، وإنما النظر في جوازها ومشروعيته مبني على موازنة المصلحة والمفسدة، فإذا كانت مصلحتها غالبة، بأن غلب على الظن إصلاحها الأوضاع أو تخفيفها السوء، أو خلعها الطاغية والإتيان بمن هو أقل شرًّا، فهي مشروعة، وهي نوع من الجهاد حسب نية صاحبها لكن لا ينبغي للمؤمن أن يغرر فيها بنفسه، بل ينأى عن المواجهات المهلكة، وعليه فلا يجب على أحد أن يخرج فيها إذا كان في الخروج مظنة هلاك، أما الندب فشأنه سهل، ومن خرج فلا يجوز له أن يعرض نفسه للتهلكة فضلاً عن أن يُلزم الآخرين بتعريض أنفسهم لذلك من أجله، ولكن يندب الناس لقول كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن خرج ليقول كلمة حق واحتسب نفسه فعلى الله أجره، وله جهاده ومن لم يجد بالنفس وضن بها فله رخصة، ولا يكلف ما يشق عليه، وأما من كان رأيه الوجوب فلا يسوغ له القعود، وإن كان قعوده لا يسوغ له عدم الصدع بما يعتقد وجوبه، كشأن المقصر في بعض الواجبات التي يدعو إليها، فله دعوته وعليه وزر ما يتركه مما يعتقد وجوبه.


وهذه المسائل المبنية على تقدير المصالح والنزاع فيها، ولاسيما مع خفاء العواقب، لا ينبغي التعصب فيها والتثريب على صاحب النظر القريب، بل كل يعمل وفق ما ظهرت له مصلحته، ويعذر صاحبه، ولا يجوز أن تكون هذه المسائل الاجتهادية محل نزاع وشقاق واختلاف قلوب، حيث إن من القواعد الشرعية المرعية أنه: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وإنما يكون فيها الحوار والنقاش بحثًا عن الحق, والتنازع سبب للفشل وذهاب الريح، قال سبحانه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وهو سبب الهلاك كما قال صلى الله عليه وسلم: « إنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ واخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ» [متفق عليه]، والخلاف شرّ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وأرى أن هذه المسائل الأولى أن يجتمع لها المعتبرون من علماء الأمة وبخاصة علما البلد حتى يكون الحكم أحرى بالصواب، والله أسأل أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يبرم لهم في سوريا وغيرها إبرامَ رشد، وأن يظهر كتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.


وكتب
ناصر بن سليمان العمر
الأمين العام لرابطة علماء المسلمين
حررت يوم الثلاثاء 18شعبان 1432هـ
 


المصدر: موقع المسلم