الدكتور عبد العزيز كامل: قضية الإسلاميين يجب أن يظل موضوعها المركزي هو السعي لإستعادة سلطان الشريعة

..بالطبع ليست هذه التهجمات على الشريعة ناشئة عن مبادرات فردية من نخب علمانية معزولة، بل إنها إمتداد لمشروعات فرض المنظومة العلمانية اللادينية على مجتمعاتنا الإسلامية.


تواصلت مفكرة الإسلام مع فضيلة الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل المشرف على موقع "لواء الشريعة", وعضو هيئة تحرير ومجلس إدارة مجلة البيان, ومدير مركز الأجيال للبحوث, وكان لنا معه هذا الحوار:

المفكرة: نجد في الوقت الحالي هجومًا شرسًا على الشريعة، خاصة في الجانب المتعلق بالأسرة والمرأة! هل ترونها مجرد محاولة فردية من نخب علمانية؟ أم أنها استكمال لأدوار سابقة تهدف إلى تنحية الشريعة كلية من الواقع؟

ج: بالطبع ليست هذه التهجمات على الشريعة ناشئة عن مبادرات فردية من نخب علمانية معزولة، بل إنها إمتداد لمشروعات فرض المنظومة العلمانية اللادينية على مجتمعاتنا الإسلامية. وهذه المشروعات لا تتحرك في أطر نظرية، بل تتحرك وفق برامج عملية بأجندات أجنبية، لا يمكن أن نتجاهل آثارها المدمرة على أمتنا، فلو تساءلنا مثلا:

- ما الذي حوَّل تركيا من دولة خلافة حامية للدين مدة خمسة قرون، إلى دولة علمانية لا دينية معادية للدين ومحاربة للمتدينين بعد مجيء كمال أتاتورك؟ لاكتشفنا أن البدايات كانت هجومًا وطعنًا علمانيًّا في الشريعة في جوانبها الاعتقادية والفقهية والأخلاقية، من أناس منفذين فكريًّا أو إعلاميًّا أو سياسيًّا، استطاعوا أن يحولوا كراهيتهم للإسلام إلى برامج عمل وتغيير.

وما يُقال عما حدث في تركيا، يمكن أن يُقال عمَّا حدث في مصر وبلاد الشام، وبلاد المغرب العربي وباكستان وأندونيسيا وغيرها، إنها المعركة القديمة والحديثة ضد الإسلام، والتي لم تنتهِ إلى الآن، بالرغم من نتائجها الكارثية على الأمة.

المفكرة: من حيث إشرافكم على موقع لواء الشريعة، من أين أتت فكرة هذا الموقع؟

ج: فكرة موقع "لواء الشريعة" جاءت من مقترح سبق وأن طرحته مع بعض المهتمين بالشأن العام في مصر، حول ضرورة إنشاء كتلة أو حملة مصرية للدفاع عن الشريعة؛ لتكون صوتًا مدافعًا عن الحرمات والحريات، والثوابت والأصول العقدية والشرعية والأخلاقية في مجتمعنا ـ مصر ـ علمًا بأن في مصر ما لا يقل عن ثلاثين حركة أو تجمع أو حزب ينادي بالتغيير من

وجهة نظر علمانية يسارية أو ليبرالية أو قومية أو حكومية، ولا يوجد في مقابل ذلك توجه إسلامي معلن إلا حركة الإخوان المسلمين وحدها، وهي في رأيي ـ ورغم احترامي لدورها الكبير ـ لا تكفي وحدها لمواجهة الهجمة العلمانية الشاملة على الهوية المصرية.
وقد جاء هذا الموقع كأحد آليات التحرك وفق المقترح المذكور، وأُضيفُ هنا: أن ذلك المقترح الذي طُرح أثناء الانتخابات الرئاسية السابقة، التي أنشأت حراكًا سياسيًّا كبيرًا في البلاد لا يزال مطروحًا، بل أرى أن الحاجة إليه اليوم أشد، بعد اشتداد الحملة على الشريعة من أطراف عديدة، آخرها ذلك المشروع المشبوه المقدم لتعديل قوانين الأحوال الشخصية، التي تُعد آخر ما تبقى من أثر للشريعة في القوانين المصرية.

المفكرة: من وجهة نظركم هل أدت الحركات الإسلامية دورها المطلوب في خدمة قضية الشريعة والسعي لإحيائها في الواقع؟

ج: الحركات الإسلامية نشأت أصلا لمحاولة استعادة إنشاء الكيان الذي يقيم الشريعة، وهو كيان الدولة الإسلامية، الذي غابت بغيابه الشريعة عن معظم أنحاء العالم الإسلامي؛ ولذلك يمكننا أن نقول: إن كل برامج وتجارب واتجاهات الجماعات الإسلامية يمكن اختصارها في عبارة "السعي إلى العودة إلى الشريعة"، لكن الأساليب تتنوع والوسائل تختلف.
ولذلك أرى أن قضية الإسلاميين مع الأنظمة العلمانية كانت ولا تزال ويجب أن يظل موضوعها هو السعي لاستعادة سلطان الشريعة على القلوب أولا، ثم حياة الناس ثانيًا، وهو ما تدل أحداث العالم في العقد الأخير أنه لم يعد مستحيلا.


المفكرة: وهل ترى فضيلتكم أن الإسلاميين في معركة الإعلام، وفي ظل امتلاكهم ناصية الفضائيات والإنترنت، يمكن أن يحدثوا تغييرًا في بنية مجتمعاتهم؟

ج: أولا: الإسلاميون لم يملكوا ناصية الفضائيات والإنترنت، لكنهم احتلوا مواقع هامَّة فيها، وإمكانات الإسلاميين في التغيير ليست قاصرة على الإعلام، والإعلام ليس قاصرًا على الفضائيات والنت؛ فالإعلام العلماني المفسد لابد أن يُواجه بإعلام إسلامي مصلح، يجابه العلمانيين في وجوههم من جهة، ويحصن الأمة من شرورهم من الجهة الأخرى.

وإذا كان العلمانيون يمتلكون فعلا نواصي الإعلام ـ لا الإسلاميين ـ فإننا نملك منه وسائل أخرى لا يملكونها، وأهم ذلك المساجد، التي لا يزال دورها ـ في رأيي ـ هو الدور المركزي والمحوري، الذي يقاتل العلمانيون لأجل حرمان الإسلاميين منه، لتواصلهم المباشر والمستمر مع الناس من خلال المسجد، وإمكانية حشد الأنصار من بين صفوفه؛ ولأنه الحصن الذى لا تُرَبَّى الأجيال إلا في محاضنه، ولا يتخرج القادة إلا من محاريبه؛ ولأمر يعمله الله، جعل صلاة الجمعة مثلا فريضة أسبوعية، يكلف الجالس فيها بالإنصات وعدم الانشغال إلا بما يسمعه، ومايتلقاه من علم وحكمة.

ولذلك لابد من سعي جاد لتحرير المساجد من أسر العلمانية، فأنا مقتنع بأن المسجد سيظل أكثر وسائل الإعلام الإسلامية قوة وبركة، وليتنا ندرك عظمة دوره في التغيير كما يدركها أعداؤنا.


المفكرة: الدكتور محمد العبدة في كتابه "حركة النفس الزكية" أشار إلى بعض نواحي القصور في فكر وتخطيط الحركات الإسلامية بالعموم؛ برأيكم وبعد حصاد عشرات السنين، ومع تنوع الحركات الإسلامية، هل حققت أو اقتربت من أهدافها؟

ج: القصور موجود، وإلا لما كان حالنا هو ذاك الحال؛ فلابد أن نعترف بذلك ونعالجه، ولكن أيضًا يجب أن يعترف لنا الآخرون بأن الحركات الإسلامية لم تعطَ أي فرصة من خصومها كي تكمل أي تجربة من تجاربها، أو تعدل في مسيرتها، أو تطور نفسها، أو تعالج عيوبها من واقع الاستمرار والاستقرار.

فالتحدي المضاد قاسٍ وعنيد، والآفاق المفتوحة لكل المفسدين في بلاد المسلمين؛ لا يُسمح بعشر معشارها للإسلاميين، حتى ولو كانوا مسالمين متسامحين، بل ربما مداهنين، فعشرات السنين التي تتحدث عنها في تجارب الحركات الإسلامية كانت سنوات حصار متواصل ومطاردة مستمرة، ومشروعات لتعطيل مشروعاتنا، وإجهاض جهودنا, بل وفتنة فئات منا عن الطريق لتنضم إلى قافلة التعويق، ومع كل هذا؛ أنا لا أستطيع أن أقول أن الإسلاميين فشلوا؛ فالمشروع الإسلامي بالرغم من كل مظاهر الحصار والمطاردة على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية يسجل نجاحات على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، وفي المجالات العلمية والإعلامية والسياسية، بل والعسكرية.

ومظاهر ذلك أكثر من أن تُحصى وأكبر من أن تتجاهل، ولكننا في كثير من الأحيان نغرم بجلد الذات، أو التواضع الضار، فمن بالله عليك من ألقى بأول سهم أو دق آخر مسمار في نعش كيان الإلحاد الدولي "الاتحاد السوفيتي"؟ أوليسوا هم أولئك المسلمين المستضعفين المطاردين، من أعضاء الحركات والجماعات الإسلامية المطاردة في أنحاء العالم؟
ومن الذي مرَّغ أنوف الأمريكيين وعملاءهم في أوحال العراق وجبال أفغانستان وأدغال الصومال؟ أليسوا هم أولئك الإسلاميين المستضعفين المطاردين المحاصرين؟

لقد شهد جيلنا هذا أكبر وأعظم قوتين في العالم المعاصر، وهما تترنحان أمام ضربات المدافعين عن الدين في زمن قياسي يقل عن ربع قرن، من كان يصدق هذا؟! إن أمتنا خير أمة أخرجت للناس، ورجالها المدافعون عنها هم خير الناس للناس، الواقع يثبت هذا، والتاريخ يثبت هذا.


المفكرة: بحساب الزمن نجد الثورة الإيرانية تمكنت من الوصول إلى هدفها من تكوين دولة شيعية خالصة، وفشلت في ذلك كل الحركات السنية، على اختلاف مشاربها، فبم تعللون ذلك؟

ج: الظروف مختلفة بلاشك، أعداؤنا يدركون جيدًا أن أهل السُّنة هم التمثيل الحقيقي لدين الإسلام، الذي عرفوه وعاركوه وتعاركوا معه على مدى مئات السنين، وهم يعلمون أن الشيعة لا يمثلون الإسلام، ولا يمثلون خطرًا إلا على أهل الإسلام الصحيح، ولذلك أرى منذ البداية أنه حدث نوع من غض النظر عن نجاحات الثورة الشيعية لاستخدامها فيما بعد ضد الكيانات السُّنية، فمجامع الأبحاث ومراكز التفكير في الغرب، لا أظن أنها تجهل الفروق والتناقضات بين طائفتي السُّنة والشيعة، وهي تخطط لمزيد من الهيمنة على بلدان الشرق الأوسط.

وقد وضح أنهم يعرفون هذه الفروق ويعملون على تعميق تلك التناقضات من خلال سياساتهم في حروب الخليج الثلاثة الماضية، عندما سلَّطوا صدام على إيران، ثم سلَّطوا صدام على بعض دول الخليج، لتأخذ إيران فرصة لالتقاط الأنفاس، ثم تسلَّطوا معًا على العراق "إيران والأمريكان" لتكون لهم شراكة في الهيمنة على ما جاوره من البلاد السُّنية، وبخاصة بلاد الحرمين، التي ينظر إليها كل من اليهود والنصارى والروافض على أن شعبها وشبابها مدد للإسلام السُّني المجاهد بلسانه وماله ودمه، والذي يعمل الجميع له ألف حساب.

فكون الشيعة قد نجحوا في الوصول إلى إقامة دولة شيعية خالصة، فهذا أمر أقرب إلى الشبه بنجاح اليهود في إقامة دولة يهودية شبه خالصة، المعادلات الدولية المعادية للإسلام الصحيح سمحت بمشروع يهودي عالمي، ومشروع شيعي عالمي؛ ولكنها لم تسمح، ولا أراها ستسمح بمشروع إسلامي عالمي، إلا بمغالبة تضرها للرضوخ، وتلجئها للتسليم.

وقد كان تحالف القوى الدولية لإسقاط كياننا الإسلامي الدولي ممثلا في الدولة العثمانية، مثالًا لايزال ماثلًا على موقف كفار العالم من ضرورة تغييب وجود دول سنية قوية، ولذلك كان من الطبيعي والمتوقع بألا تسمح بقيام أي دولة يمكن أن تقوم بهذا الدور في يوم من الأيام، ولعل هذا ما يختصر قصة صراع العلمانيين مع الإسلاميين عبر العقود العشرة الماضية، والتي تتكررت أمثلتها في السنوات الأخيرة، في كل من الجزائر والشيشان وأفغانستان والبوسنة والصومال والسودان وفلسطين والفلبين وكشمير وغيرها ...


المفكرة: يتميز حديثكم عن الحركات الإسلامية بضرورة تجاوز الحزبية والعصبية وإيجاد سبل للتعاون، ومن ذلك مقالكم في تقرير البيان الاستراتيجي بعنوان «ما بعد الحزبية»، فما صدى هذه الدعوة حتى الآن؟

ج: أما عن الصدى، فأنا لا أرصد الأصداء، لكن لعل سؤالك يفتح الفرصة لأن أقول: إن الحزبية والعصبية غير الشرعية، أضرت بالحركات والاتجاهات الإسلامية، أكثر مما أضر بها أعداؤها، فقد كان من الممكن أن تجني الحركة الإسلامية أضعاف ما جنت من ثمار، لو لم تلتف آفات الحزبية حول جذورها وتتلف الكثير من أغصان شجرتها المورقة، ولذلك فإن من أول مهام المصلحين في رأيي، ألا يَكلُّوا وما يَمَلُّوا من البحث عن سبل التلاقي والتقارب بين الإسلاميين، فهذه فريضة شرعية، وسنة كونية، لن تنصلح أحوالنا إلا بتصحيح الأوضاع فيها، كما قال الله: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

ولذلك قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الإصلاح بين الأفراد المتخاصمين أفضل من كثير من الصيام والصلاة والصدقة، فما بال من يصلح بين جماعات ستكون مسئولة في يوم من الأيام عن مجتمعات {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

لا أرى مشكلة في بقاء الجماعات، بل أرى المشكلة في استمرار الحزبيات، التي يجب شرعًا استبعادها، ويمكن عقلًا البقاء بدونها، لتظل تجمعات التعاون على البر والتقوى أقوى وأنقى وأبقى.


المفكرة: إذا انتقلنا لدور العلماء، ما رأيكم في الدور المنتظر من علماء الأمة تجاه قضاياها الشائكة؟ وهل كان موقفهم في قضية غزة مرضيًا، وقد صدر منهم عشرات التصريحات والبيانات؟

ج: كان علماء الأمة ـ وسيظلون ـ أصحاب الدور الريادي والقيادي فيها، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، لكن المشكلة ليست في تحقيق الدور المناط بالعلماء بقدر ما هي في تحقق صفات أهل العلم فيمن يُدْعَوْنَ بالعلماء.
فلو تحققت تلك الصفات لأثمرت وظائفها التي هي وظائف الأنبياء، إبلاغًا للحق، وقوة في الحق، وانتصارًا لأهل الدين، وانتصافًا من أعدائهم، الدور المناط بالعلماء هو ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حمل ميراث النبوة، من البلاغ والبيان والقيام بأمر الله في خاصة النفس، والعمل على إقامته في عامة الناس، وهذا لن يكون بالتنظير الصوري، بل بالتنفيذ العملي.

وقد سبق لي أن كتبت عدة مقالات حول ضرروة إعادة مؤسسة أهل الحل والعقد، المكونة من خاصة الأمة، وفي مقدمتهم العلماء، لكي تقوم تلك المؤسسة بدورها في قيادة الأمة، فأهل الحل والعقد من العلماء وأصحاب الرأي والفهم والتخصص هم المعنيون في الأساس بوصف "أولي الأمر"، لأن الولاية العلمية هي الأساس الذي ينتج عنه وجود ولاية أمر سياسية شرعية، فلا شرعية لولاية سياسية لم تُعطَ الشرعية من أصحاب الولاية العلمية الذين هم أهل الحل والعقد.


المفكرة: سبق أن قدمتم اقتراحًا بوحدة العلماء ... فهل ستظل هذه الدعوة حبيسة الأدراج؟ وما هي خطتكم أو رؤيتكم المنهجية تجاه وحدة علماء المسلمين؟

ج: الاقتراح سبق تقديمه عبر صفحات مجلة البيان في مقال بعنوان "تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير" ولم يكن اقتراحًا بوحدة العلماء، وإنما كان اقتراحًا لإنشاء إطار أو رابطة أو كيان معنوي اعتباري يجمع جهود الدعاة واجتهاداتهم في القضايا الكبرى على الأقل، على أن يثمر ذلك في مرحلة لاحقة كيانًا آخر أكثر خصوصية للعلماء.

أما الوحدة بمعناها الحرفي للعلماء اليوم أو غدًا فهي أمر متعذر، لطبيعة البشر في اختلاف الأفهام الطباع والظروف، وقد اشترطت لنجاح مسعى هذا التقارب بين الدعاة، ألا يكون وفق أي أجندة حزبية أو عنصرية أو رسمية، لأني أرى أن خضوع أي تجمع للعلماء أو الدعاة لأي من تلك الأجندات، سوف يفسد الدور الذي يمكن أن يقوم به.

والواقع المشاهد أن تلك المعوقات الثلاثة، تصر على أن يكون دورها أسبق من دور العلماء في تسيير دفة الأمة، لكن مع ذلك، لن نفقد الأمل، لأن هذا أمر شرعي قبل أن يكون أمرًا صوريًّا أو شكليًّا، فالله تعالى يقول: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فالطاعة الواجبة بعد الله والرسول هي لأهل العلم، وأهل الحكم لهم تبع.

والذي أراه ويراه الكثير من المهتمين بأمر المسلمين، أنه إذا تعذر إنشاء رابطة للعلماء على المستوى العالمي اليوم، فلا أقل من أن تقوم روابط محلية على مستوى كل بلد إسلامية، فعسى أن تتيسر الظروف التي يمكن أن تجمع هؤلاء على كلمة سواء، ويبدو أن هناك بدايات لذلك في بعض البلدان.


المفكرة: مازالت حركة حماس، وخوضها للمعترك السياسي، تشكل مجالًا للخلاف بين الإسلاميين، فهل أصابت حماس بدخولها للمعترك السياسي في الوقت الحالي أم كان الأفضل بقاؤها حركة مقاومة ضد الاحتلال؟

ج: كان رأيي ـ ولا يزال ـ أن دخول حماس في مشروع سياسي مظلته اتفاق أوسلو، لم يكن محسوبًا جيدًا، لأنك لا تستطيع أن تبني مشروعًا ناجحًا على أرض الغير، ومرهونًا بموافقة الغير، الذين لن يتوافقوا معك أبدًا، إلا إذا بنيت هذا المشروع على وفق مواصفاتهم، وضمن أجنداتهم، والغير هنا؛ هم في الحقيقة أعداؤك وليسوا شركاءك، سواء أكانوا من "الإسرائيليين" أو الأمريكيين، أو المنافقين العلمانيين، وهؤلاء جميعًا لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم، وتستجيب لشروطهم، وتعمل لحسابهم.

وقد كان واضحًا منذ البداية أنه لن يسمح بذلك المشروع عالميًّا ولا إقليميًّا ولا محليًّا إلا بشروط أوسلو نفسها، وهو ما يترجم منذ البداية وإلى الآن بالإصرار على مطالبة حماس بالاعتراف بتلك الاتفاقية وباحترامها، واحترام ما نصت عليه من الاعتراف بالدولة الصهيونية على ثلاثة أرباع فلسطين، والاعتراف بأن مقاومتها إرهاب يجب نبذه بل ومحاربته، مثلما فعلت منظمة التحرير، والأنظمة التي اعترفت بما يسمى "إسرائيل".

الذي حصل منذ الدخول في العملية السياسية تحت تلك المظلة التي جرت وفقها الانتخابات، أن حماس حوصرت وحوربت، ولا تزال تحارب وتحاصر، وستظل تحارب وتحاصر، ما دامت ثابتة على موقفها من رفض تلك الإملاءات الثلاثة المسماة دبلوماسيًّا، بشروط اللجنة الرباعية، التي تضم الأطراف الدولية الأربعة النافذة، وهي الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الروسي.

وبطبيعة الحال فإن هؤلاء هم أعمدة ما يسمى بالشرعية الدولية المنشئة لدولة اليهود والداعمة لها، ولذلك كانت معظم الأطراف العربية ـ فضلًا عن منظمة التحرير الفلسطينية ـ ضاغطة على حماس في ذلك الاتجاه، بل مشترطة عليها ألا تتعامل معها أو تعترف بها، إلا إذا وافقت على تلك الشروط؛ وهذا ما يجعل أفق الحل السياسي مسدودًا أمام حماس، إلا في حالة تخليها عن المبادئ التي أكسبتها حب الناس لها واحترامهم إياها، ونحن نتمنى على الله أن يثبت إخواننا حتى لا يأخذ أعداؤهم منهم سلمًا، ما عجزوا عن أخذه حربًا.

أما سؤالك عن خيار المقاومة، أو بالأصح خيار الجهاد، فهو ليس خيارًا، بل هو فريضة الوقت، وكل وقت، ما دامت هناك شعوبًا إسلامية مضطهدة، وأراض إسلامية مغتصبة، ومقدسات إسلامية مهانة، فهذا واجب وفريضة لا على حماس وحدها، بل على الأمة بأسرها، لاستنقاذ الأقصى الذي يوشك اليهود أن يهدموه، وبيت المقدس الذي اقتربوا أن يهودوه، وتخليص الأسرى، وتحرير هذا الجزء العزيز من أرض الأمة.


المفكرة: وصفتم الرئيس الجديد لأمريكا "باراك أوباما" في مقالٍ لكم بأنه "الرئيس المأزوم"، الذي ورث تركة الرئيس المهزوم جورج بوش، فما هي أزمات "أوباما"، وهل ترون في خطابه للعالم الإسلامي تغيرًا في نهج أمريكا؟

ج: التغيير في نهج أمريكا، لا يمكن الحكم عليه من خلال تصريحات تطلق، أو وعود تقال، فهناك واقع كارثي معاش في كثير من بلدان المسلمين من جراء السياسات الجائرة للمؤسسة الأمريكية الحاكمة خلال العقد الأخير، وما لم تعالج تلك المؤسسة "وليس الرئيس" آثار ذلك الجور، فلا يمكن أن يقال أن هناك تغيرًا في النهج الأمريكي، والوقت لا يزال مبكرًا للحكم على ذلك التغيير، وقد بينت الأمور التي يمكن بعدها أن نقول إن سياسة أمريكا تغيرت تجاه العالم الإسلامي، في مقال بعنوان "أوباما نريد برهانًا لا رهانًا".

أما الذين لا يزالون يراهنون عن التغيرات الخطابية الدعائية والإعلامية، فهؤلاء يمكن أن يضروا الأمة كثيرًا عندما يصورون لها أن العدو الذي لا يزال يحتل أرضها، ويغتصب الكثير من خيراتها، ويدعم أسوأ أعدائها، ويساند جلاديها، ويحارب أحرارها، قد أصبح في أقل من شهور معدودة صاحب سياسة محمودة، وغدا كأنه ولي حميم، أو صديق قديم.

"أوباما" ورث تركة هزائم وأزمات، جعلت وجه أمريكا أسودًا كالحًا، والمؤسسة الأمريكية الحاكمة كانت في أشد الحاجة لسياسة تلتف بها على الهزائم لتصنع منها انتصارات، وعلى الأزمات لتنتج منها منجزات، وهذا تمامًا ما يقوم به "أوباما" ـ في رأيي ـ بمثالية تمثيلية عالية، ولعل هذا كان أكبر مؤهلاته كي تدفع به المؤسسة الحاكمة إلى الواجهة.

وجهة نظري الخاصة، أننا نرتكب خطأ يمكن أن يصل إلى حد الحماقة، عندما نساعد أمريكا على تحويل هزائمها على أرضنا إلى انتصارات، وجرائمها التاريخية إلى منجزات، لمجرد بسمات، وتصريحات، وتطمينات، خاصة وأننا لا نزال ضحايا إجرام، تحالفها الذي لا يزال معقودًا ضدنا، وحروبها التي لا تزال قائمة على أراضينا، وعدوان حلفائها في دولة اليهود التي تعهد "أوباما" بحفظ أمنها وضمان تفوقها على كل جيرانها، وهو لابس القبعة اليهودية أمام ما يسمى بـ"حائط المبكى"!!.
"أوباما" ـ الوديع ـ تنصل من وعوده الانتخابية بالانسحاب من العراق، وقال: إنه سيُبقي على الأمريكيين غير المقاتلين لكي يقوموا على تدريب المجرمين الذين يتعقبون المجاهدين، أي إنه يريد حقن دم الأمريكيين بدماء العراقيين، وقد كشف عن أنه سيضيف 17 ألف مقاتل إلى جيش القتلة في أفغانستان، هذه فقط مجرد مؤشرات أولية توجب على كل من له عقلية أن يتريث قليلًا، قبل أن يعلن التفاؤل بتحول حقيقي في طبيعة البيت الأبيض بمجرد تغير لون المقيمين فيه إلى اللون الأسود.


المفكرة: هل يمكن التعاطي مع إيران سياسيًّا مع غض النظر عن أجندتها العقدية؟

ج: من أوجه التشابه بين دولة رفض الحق في إيران، مع دولة العداء لكل حق فيما يسمى "إسرائيل"، أن كلاهما من الكيانات العقائدية العنصرية.

وجوابًا على سؤالك أقول: لو كان أمكن التعاطي المثمر مع دولة اليهود الاستيطانية الشيطانية ـ سياسيًّا ودبلوماسيًّا ـ دون اعتبار لطموحاتها التوراتية العنيدة، وتوجهاتها التلمودية الحقودة؛ لكان يمكن التعامل الإيجابي مع إيران سياسيًّا أيضًا دون نظر إلى استراتيجيتها التوسعية، وعقيدتها الانتقامية، وثورتها وشعاراتها الكاذبة.

لا أرى اشتراكًا حقيقيًّا بيننا وبين الشيعة الإيرانيين في أي أجندة من الأجندات، حتى نتعاون معهم فيها، وحتى قضية التصدي "لإسرائيل" فلن تتخطى استثمار الشيعة لها لأجل استكمال مشروعهم الإمبرطوري الخطير الممتد من صعدة بشمال اليمن مارًّا بطول الحدود الشرقية للجزيرة العربية، ثم العراق إلى الشام حيث سوريا ولبنان، لينتهي الطوق المحكم على جزيرة الحرمين عند فلسطين، التي يمكن أن يتقاسموا النفوذ في أرضها مع أعدائها كما فعلوا في العراق، ويريدون أن يفعلوا في أفغانستان، وأهل السنة في فلسطين، وفي كل الأحوال لن يكونوا أعز عند الروافض من سنة العراق أو أفغانستان، أو إيران نفسها، وأعراضهم لن تكون أولى بالحفظ من أعراض أبي بكر وعمر وعثمان وأمهات المؤمنين.


المفكرة: إذا عدنا إلى العالم الغربي، هل ترى الأزمة الاقتصادية الحالية مؤشرًا على سقوط الليبرالية، كما سبق وسقطت الشيوعية باعتبار الرأسمالية هي الشق الاقتصادي لهذا الفكر؟

ج: سقوط الرأسمالية، لم يعد مجرد تحليل أو استشراف مستقبلي، بل إنه أصبح واقعًا معاشًا على المستوى الدولي، فأمريكا زعيمة العالم الرأسمالي والليبرالي، والتي حاولت لبرلة العالم اقتصاديًّا من خلال مشروع العولمة، وسياسيًّا من خلال مشروع القرن الأمريكي، والتي حاولت أمركة العالم الإسلامي وإخضاعه عسكريًّا من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، هذه الأمريكا، هي التائهة الآن في آفاق الإخفاق في كل المجالات والساحات، فهي التي تقبل الآن صاغرة، وقبل أن ينتهي العقد الأول من الألفية الثالثة، بنظام اقتصادي عالمي جديد، سيخلفه بالقطع نظام سياسي عالمي جديد، مع أن مفكري أمريكا هم الذين بشروا قبل سنوات معدودة بانتصار النظام الليبرالي سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا في سياق نهاية التاريخ، وتعهدوا بإستمرار هيمنته على قيادة العالم لقرن قادم، ضمن صراع الحضارات!!

ولعلها مناسبة هنا أن أسجل نقطة هامة أختم بها هذا الحوار، وهي أن أمريكا التي شنَّت على الإسلام حربًا سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية طوال العقد الأخير، هذه الإمبراطورية الباغية، قد خسرت تلك الجولة مع أمة الإسلام في كل تلك المجالات، بالرغم من رزوح شعوب تلك الأمة تحت نير القهر والاستبداد في غالب بلدانها.

فأمريكا هُـزمت أو فشلت عسكريًّا في كل من العراق وأفغانستان والصومال ... وهُـزمت أو فشلت سياسيًّا، بفشل الأنموذج الذي أرادت فرضه باسم الديمقراطية في بلدان إسلامية وعربية عديدة، وهُـزمت أو فشلت فكريًّا، بذهاب جهود ما أسمته "حرب الأفكار" أدراج الرياح، حيث لم تستطع مراكز التفكير الأمريكية كمؤسسة راند وغيرها، أن تسجل اختراقًا فكريًّا في البنية الثقافية لعموم المسلمين، فلم تفلح في نشر ما يسمى بالإسلام المدني الديمقراطي، ولم تنجح في تسويق ما أسمته أخيرًا بالإسلام العلماني، حتى أن رامسفيلد المهزوم، قد اعترف علانية قبل استقالته بأن أمريكا خسرت حرب الأفكار.


وأخيرًا أقول: إن انكسار أمريكا اقتصاديًّا، وفشل النظرية الاقتصادية الغربية الذي تترجم عنها الأزمة المالية العالمية الحالية، بالرغم من أنه كان إعلانًا عن إفلاس نظرية كان يراد تعميمها وعولمتها؛ إلا أنه لم يكن بعيدًا عن واقع حرب الأمريكيين في بلاد المسلمين، فلاشك أن استنفار أمريكا لكل قواها عسكريًّا وأمنيًّا على طول وعرض عالمنا الإسلامي، مع استمرار الصد والصمود الإسلامي ضدها، قد أربك حساباتها عسكريًّا وأمنيًّا وسياسيًّا ... وكان طبيعيًّا أن تترجم تلك السقطات اقتصاديًّا، وكانت أزمة الرهون العقارية أظهر مظاهرها.

وهي على كل حال فهي أزمة لا ينبغي أن نتغافل عن أسرارها الكونية، من كونها عقوبة قدرية لأقوام حاربوا الله بالاقتصاديات القائمة على الربا المحرم حتى في شرائعهم المحرفة، وحاربوا أولياءه بحرب إرهابية عالمية، وبالغوا في ظلم الشعوب المستضعفة بإجتياح أراضيها، واستباحة حرماتها، واستحلال استغلال ثرواتها، لذلك جاء العقاب مباشرًا من الله، أو على أيدي عباد الله، وصدق الله {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، ونحن نتوقع المزيد، كلما كان عند أعداء أمتنا مزيد {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].



 

<