مدافعة أم مدافعات

{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}...



الكون قائم على مبدأ الزوجية على نحو ما أشار إليه الكتاب العزيز: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] وهذه الزوجية في المخلوق دليل على وحدانية الخالق – سبحانه - وهي أيضاً مصدر للمدافعة، لأن الزوجية تقوم على المغايرة، كما هو الشأن في الذكر والأنثى، والسعة والضيق، والقلة والكثرة، والبقاء والفناء... وأنا أفهم أن الزوجين من كل شيء يجري بينهما نوع من الصراع والتدافع الذي ينتهي في نهاية المطاف إلى نوع من التكامل والتعاون، وإن من الملاحظ أن الأمر يتجاوز التكامل في بعض الأحيان إلى أن يستمد الشيء ملامحه من ضده، فلولا التعب ما عرف الناس قيمة الراحة، بل إن الراحة لا يكون لها أي معنى إذا كانت مستمرة، وتصبح مصدراً للسأم، وكمالها في أن تعقب التعب، وقُلْ هذا في كثير من الأشياء، ومن هنا قالوا: إن للشوهاء فضلاً على الحسناء، إذ لولا القبح الذي لدى الشوهاء ما عرف الناس قيمة الحسن الذي لدى الحسناء.

أنا أرمي من وراء سوق هذا المعنى إلى شيء مهم هو إبراز قيمة المغايرة والتضاد، واللذين هما القاعدة أو الأرضية التي تقوم عليها المدافعة. إن المدافعة لها وظيفة مهمة هي - كما أشرنا - التوازن، وإيقاف الأشياء عند حدودها الطبيعية، ومنها من التجاوز والطغيان، ونحن رأينا الآثار العالمية السيئة التي ترتبت على سقوط كيان سيئ هو الاتحاد السوفيتي، وذلك لأن أمريكا بعد سقوطه انفردت بالعالم، وأخذت تعربد فيه، وهذا يعني أن المدافعة حتى بين الأشياء السيئة، فإنها قد تخفف من سوئها، وهذا من بديع حكمة الله – تعالى - في خلقه!

من المهم إذاً عدم طمس المدافعة والالتفاف عليها، وهو يتم عن طريقين أساسين:

الأول: إنكار وجود المدافعة، والذي يقوم في الغالب على نفي الخلاف والاختلاف والمغايرة، وقد رأينا أن بعض الناس يملك قدرة كبيرة على مكابدة المآسي، وتحمل الآلام من أجل إخفاء الصراع، لأنه لا يريد أن يعرف الناس أنه على خلاف مع أبيه أو زوجته أو شريكه، وأحياناً يتجاوز الأمر ذلك إلى ما هو أكبر، إذ نجد من يدعو إلى أن يكون الدعاة والساسة شيئاً واحداً في السراء والضراء، مع أن كل واحد من الفريقين يملك سلطة مغايرة للسلطة التي يملكها الآخر، والاحتكاك بينهما وارد في كثير من الأحيان. وسوف يستغرب كثير من الناس مثل هذا الطرح، وقد يفهمونه على أنه دعوة للنزاع والتصادم، والأمر طبعاً ليس كذلك، فنحن جميعاً نحب اجتماع الكلمة ووحدة الصف وجمع الشمل ما دام ذلك ممكناً ومفيداً. ماذا لو أنني تصالحت مع نفسي، وتوحّدت معها، وتوحّدتْ معي، فلم تلمني، ولم أوبخها، وصرت أظن أن كل جوانب حياتي حية وفاعلة ومتناسقة؟ الذي سوف يترتب على ذلك هو الانحطاط والتدهور في حياتي وعلاقاتي. قد يقول قائل: إذاً هو المطلوب؟ المطلوب هو: أن تكون قواعد الاتفاق والاختلاف واضحة، وقواعد المدافعة مشروعة وغير عنيفة ولا استغلالية، وهذا يكون إذا كنا فعلاً نبحث عن الحق، ونسعى لما فيه المصلحة العامة. لا بدّ من أن تكون الحقوق والواجبات واضحة، ولا بدّ أن يكون أسلوب الممارسة لدى ذوي السلطات والمصالح المختلفة أيضاً واضحاً، ومنضبطاً، ومقنناً، وقابلاً للشرح، وقابلاً للمدافعة عنه.

الثاني: تشويه الخصم والافتراء عليه والإساءة إلى سمعته واتهامه لما ليس فيه، والاستهانة به... إذ إن كثيراً من الناس يجدون في هذه الأمور مخرجاً من الصراع والمدافعة، كما يفعل المريض الذي أنهكته العلل حين يقول: إنه ليس هناك من يستطيع اكتشاف مرضه أو معالجته. الله -
جل وعلا - نهانا عن تشويه صورة الخصوم، لأن في ذلك ظلماً للنفس من خلال إنهاء المدافعة وظلماً للخصوم من خلال وصفهم بما ليس فيهم، وفي هذا يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]، أي: لا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل كونوا عادلين مع كل أحد سواء كان صديقاً أو عدواً. أنا أدعو إلى شرف الخصومة ونزاهة المدافعة والحرص على الاستفادة من أولئك الذين قد نختلف معهم في بعض الأمور. إن الآخر المغاير قد يكون منافساً، وقد يكون عدواً، وقد يشكل خطراً عليّ... وفي كل الأحوال فإنه قد يكون لديه بعض الحلول لبعض مشكلاتي، ومن هنا فإني حين أشوّه سمعة الخصوم، فإني أحرم نفسي من الاستفادة منهم.
وأكون فعلاً كمن ينظر في مرآة محدبة أو مقعرة، إنه لا يستطيع أن يرى نفسه على حقيقتها.

إذا أردنا أن ننظر إلى تطبيقات هذه الفكرة وإلى تجلّياتها في علاقتنا بالغرب، فإن الأمر يتطلب مقالاً كاملاً، وهذا ما سأقوم به بحول الله وقوته.

 


المصدر: عبد الكريم بكار - موقع المختار الإسلامي