أيها الأمير: أنت أجير

ملفات متنوعة

أيها الأمير: أنت أجير

محمد بن شاكر الشريف





ينظر كثير من الناس إلى من بيدهم أزْمّة الأمور في بلادهم من (رئيس، وأمير، وملك) وكأنهم أصحاب السيادة على شعوبهم، وقد أثرت هذه النظرة على مواقف الناس منهم، فهابوهم هيبة غير محمودة منعتهم من القيام بما أوجب الله عليهم، فلا يكادون يأمرونهم بمعروف قد تركوه، ولا ينهونهم عن منكر قد فعلوه، ومن حاول من نفسه أن ينصح لذي السلطان، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنه يقوم بذلك على استحياء، ويقدم بين يدي كلامه من الألفاظ والتعبيرات المتملقة ما يفسد المهمة التي من أجلها قام قومته، ولعل الذي حمله على ذلك المسلك ما يلقاه من صدود ومواقف متجهمة من أصحاب السلطان..

وبمرور الأيام على هذا النحو ازداد استعلاء الظَلَمة من أصحاب السلطان، في الوقت الذي زاد فيه ضعف الناصحين الآمرين الناهين، ولو استيقن الناس أن الذين بيدهم أزْمّة الأمور ليسوا مُلّاكًا على الحقيقة، وإنما هم أُجراء يأخذون أجرهم نهاية الشهر أو نهاية السنة، لحملهم ذلك على القيام بالحق تجاه ولاتهم من غير خوف ولا رهبة، فإن كل واحد منا إذا استأجر أجيرًا على عمل لم يخف منه أو يرهبه، بل يأمره وينهاه ليقوم بالعمل على الوجه الأحسن المطلوب، وليس أمام الأجير إلا أن يقوم بما استؤجر على القيام به وإلا عدّ مقصرًا..

يوضح ذلك: ما قاله أبو مسلم الخولاني لمعاوية وهو أمير المؤمنين فقد دخل عليه، فقال: "السلام عليك أيها الأجير" فقال الناس: مه..! الأمير يا أبا مسلم، ثم قال: "السلام عليك أيها الأجير" فقال الناس: الأمير، فقال معاوية: "دعوا أبا مسلم، فهو أعلم بما يقول" فقال أبو مسلم: "إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيرًا فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة، ولم يوفر جزازها وألبانها، غضب عليه فعاقبه ولم يعطه الأجر" فقال معاوية: "ما شاء الله كان".

فهذا أبو مسلم وقد فهم الوظيفة الحقيقية للأمير، فواجهه بها أمام الناس، وعندما روجع في ذلك لم يرهب الموقف، ولم يخش نتيجة كلامه، بل أصر عليه وكرره أكثر من مرة، وقد قبل أمير المؤمنين معاوية من أبي مسلم قولته ولم ينكر كلامه، أو يعاتبه أنه قال ما قال أمام الناس، بل أنكر على المنكرين على أبي مسلم، وهذه النظرة التي يعترف فيها الولاة بمكانة الرعية وحقهم في الأمر والنهي والنصح، هو ما دلت عليه النصوص المتكاثرة، وهو ديدن أهل العدل من الولاة..

فهذا الخليفة الأول يعترف بحق الرعية في مراقبته ومحاسبته، إذ هو ليس مالكًا لهم أو مسيطرًا عليهم، فهو يقول -رضي الله تعالى عنه- في أول مقام يقومه بعد انعقاد البيعة له: "أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذاعصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" فهو يدرك -رضي الله تعالى عنه- وظيفته الحقة، ويدرك وضعه الشرعي إزاء رعيته، ويعرف حقهم تجاهه في مراقبته، ليتسنى لهم إعانته أو تقويمه حسب ما يظهر لهم من مسلكه..

وعن ابن المبارك قال: "أتى عمر بن الخطاب مشربة بني حارثة، فوجد محمد بن مسلمة، فقال عمر: كيف تراني يا محمد؟ فقال: أراك والله كما أحب وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قويًا على جمع المال عفيفًا عنه، عادلًا في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف، فقال عمر: هاه، فقال: لو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف، فقال عمر: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني" -عدلناك: قومناك- ولو أن الولاة ساروا سيرة حسنة، أو لو أن الناس إذ رأوهم مالوا أو زاغوا عن الجادة قوموهم وأنكروا عليهم، ما احتاجت الشعوب لهذه الثورات التي تكاد تطرق أبواب الدول العربية كلها..