وداع العام

الشيخ محمد بن صالح العثيمين

الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً من ذوي الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد ومنه المبتدأ وإليه المنتهى والمآب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من تعبد لله وأناب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليماً.

أما بعد:
أيها الناس:
اتقوا الله تعالى وتبصروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقرب إلى مولاه، طوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنب العصيان، طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [النور: 44].

إخواني:
ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار، فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب وزوال.
ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويداً رويداً كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال وهكذا عمر الإنسان سواء فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاماً بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ثم تمر به الأيام سراعاً فينصرم العام كلمح البصر فإذا هو في آخر العام.. وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: ١٩]، ربما يؤمل الإنسان بطول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأمل قد انصرم وببناء الأماني قد انهدم.

أيها الناس:
إنكم في هذه الأيام تودعون عاماً ماضياً شهيداً، وتستقبلون عاماً مقبلاً جديداً، فليت شعري ماذا أودعتم في العام الماضي وماذا تستقبلون به العام الجديد؟ فليحاسب العاقل نفسه، ولينظر في أمره.. فإن كان قد فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك ما فات، وإن كان ظالماً لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممن منّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليها إلى الممات.

إخواني:
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، وليست التوبة مجرد قول باللسان من غير تخلي، إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وإنما التوبة ندم على ما مضى من العيوب وإقلاع عما كان عليه من الذنوب، وإنابة إلى الله بإصلاح العمل ومراقبة علام الغيوب، فحققوا أيها المسلمون الإيمان والتوبة فإنكم في زمن الإمكان.

وعظ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»، ففي الشباب قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة، وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال، وفي الغنى راحة وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال، وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان.

عباد الله:
اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها، واعلموا أن كل آت قريب، وأن كل موجود منكم زائل فقيد، وابتدروا الأعمال قبل الزوال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ . إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ . هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس:3-6].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.