جزيرة الإسلام

ملفات متنوعة

عبد الله بن إبراهيم الهويش


كتيب صغير صدر منذ فترة، وقد شدَّني فيه هذا العنوان، فانطلقت من خلاله إلى آفاق بعيدة، عشت فيها لحظاتٍ إنجابَ أمامي الماضي كله في صور شتى، وانثالت عليَّ الخواطر والأفكار بمجرَّد التأمل فيه، وما يعنيه الربط بين هذه الجزيرة والإسلام، فهو - بغض النظر عن صدقه وواقعيته - يُثِيرُ موضوعًا نحن في أمَسِّ الحاجة إلى إثارَتِه في الأَذْهَانِ، والتركيز عليه، وتذكير النَّاس بواقعٍ هم عنه غافلون، في وقت كثرت فيه المطامع، وكشَّر كل ذي ناب عن نابِه، وليس لهذه الأمة من ولي ولا نصير إلا خالقُها وربّها سبحانه وتعالى، وليس لها من طريق إلا طريقُ الاستقامة على دينه وشرعه، وأخْذه بقوة وعزة وعزم أكيد، وإلا فهو الاضمحلال والتلاشي والخسار {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

نعم هذه الجزيرة هي جزيرة الإسلام، وإنه اسم وافق مسمًّى، فبأي مقياس تقيس، وبأي عين تنظر إلى هذه الجزيرة؛ فلن تستطيع أن تَفْصِلَها عن الإسلام الذي هو قدرها وقدر أبنائها، مهما تغيرت الظروف والأحوال، وأيُّ اتجاه - بأي دعوى كانت - يخرجها عن هذا الطريق، أو يَسومها التجافيَ عنه هو في الواقِعِ رجوعٌ بِها إلى عهْدِ جاهلِيَّتها وظلامها وضلالها، فعندما كان الإسلام غيبًا من غيوب الله المستترة، كانتْ هذه الجَزِيرَةُ بُقْعَةً من الأرض، لا يُعبَأ بها ولا يُلتفَت إليها، ولم تستوقف أحدًا، وما عاج عليها التاريخ ليسجّل ما يدور بداخلها؛ إلا وقفات لا تُشرِّف؛ بل هي العار، عندما يَجِدُ بِنتًا تُدْفَن حيَّة! أو ساجدًا لحَجَر يتخذه إلهًا! أو حربًا تزهَق فيها الأرواحُ أربعين سَنة من أجل ناقة! ولكن عندما أشرق على بطْحائها نورُ الحق فكان ذلك إيذانًا بِولادتها، وبداية تاريخها الناصع، ومجدها التلِيد، فعلى جبل نورها تجلَّى الوحيُ بكلمة {اقرأ} رمزًا للعلم والمدنية.

وَقِيلَ: اقرأ تعالى اللَّهُ قَائِلُهَا *** لَمْ تَتَّصِلْ قَبْلَ مَنْ قِيلَتْ لَهُ بِفَمِ
هُنَاكَ أُذِّنَ لِلرَّحْمَنِ فَامْتَلأَتْ *** أَصْقَاعُ مَكَّةَ مِنْ قُدْسِيَّةِ النَّغَمِ [1]

وفي أفق سمائها انبثق النور الذي ملأ المشرق والمغرب، وعلى أرضها طُبِّق منهج الله واقعًا حيًّا في ظِل دولة الإسلام، ومنها انطلقت مواكب الفتح أمواجًا لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتهدي البشرية وتصلح فساد قلوبها وأخلاقها، وتعمر الأرض بعد خرابها، وتقيم عليها أسمى حضارة عرفتها الإنسانية وسعدت بها.

فَسَلْ صحراءها وقِفارها ووِهَادَها وجبالها تُنبئْك عن أخبارها؛ فما مِن بقعة فيها إلا وقد تَشرَّفَتْ بأن يطأها قَدَمُ مُجاهدٍ في سبيل الله، أو كانَتْ قَبْرًا لشهيدٍ في معركة حاسمة، أو وقف عليها قانتٌ لِلَّه ساجدًا وراكعًا، أو وطئتها سنابك خَيْلِ أبطالِها الفاتحين، وما من واحد من أبنائها إلا هو سليل أولئك الأمجاد، الذين حَمَلُوا للناس الهدى والنور، يوم حَمَلَ غيرهم الخراب والدمار.

فإذا فخرت بلاد بأنهارها وأشجارها وطِيب هوائها، فحُقَّ لهذه الجزيرة أن تفخر بنورها الذي عمَّ الأفق، وملأ الأسماع، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم الصراط المستقيم.. إنه الإسلام.

وإذا فخرت بلاد بفكرها وأدبها وشِعرها، فحسْبُ هذه الجزيرة أن تفخر وتُطاوِل السماء بمعجزة الله الخالدة، حجةِ الله على العالمين، الذي شرُفت لغتها أن تكون وعاءه المختار.. إنه القرآن الكريم.

وإذا شَرُفَتْ بلاد برجالها وأبطالها وزعمائها، فإن هذه الجزيرةَ تَشرُف وتعتز برحمة الله للعالمين.. إنه محمد بن عبد الله، فأي تاريخ كتاريخها؟! وأي مجد كمجدها؟! فأي يدٍ تريد أن تطمس ذلك أو تتخلى عنه لتعيش على حثالات الأفكار وفُتات موائد الآخرين: إنها اليد الآثمة، والفكرة المجرمة، والعقول المريضة التي سلخت من أمتها كما يُسلخ الأديم.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] الشوقيات جـ 1/205 من قصيدة نهج البردة.

<