ولا ذبابة.. !

ملفات متنوعة


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أنه قال: "دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ رَجُلٌ النَّارَ فِي ذُبَابٍ". قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "مَرَّ رَجُلانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ، لا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا، فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ، قَالُوا: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَقَرَّبَ ذُبَابًا، قَالَ: فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، قَالَ: فَدَخَلَ النَّارَ، وَقَالُوا لِلآخَرِ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، قَالَ: مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ، قَالَ: فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، قَالَ: فَدَخَلَ الْجَنَّةَ" (أخرجه الإمام أحمد في الزهد، وصححه الألباني موقوفًا على سلمان).

قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في فوائد هذا الحديث: "معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، وكيف صبر ذلك الرجل على القتل ولم يوافقهم على طلبهم، مع أنهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر، وأن الذي دخل النار كان مسلمًا؛ لأنه لو كان كافرًا لم يقل: "دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ"، مع أنه لم يقصده، بل فعله تخلصًا من شرهم" اهـ مختصرًا.

هذا الحديث العظيم، وهذه القصة العظيمة تحذر المؤمن من التساهل أو الترخص في مداهنة المشركين وأهل الضلال؛ ولو بفعل ظاهر حقير في ظنه، يعلم الجميع ويعلم العدو قبل الصديق أنه إنما يفعله مداهنة عن غير اعتقاد كي يمر ويعبر، ومع ذلك فالمشركون يرضون منه بهذه التمثيلية الحقيرة، وهذا القدر اليسير من المداهنة؛ لأنهم لا يطلبون دخوله في دينهم بقدر ما يطلبون إقرارًا منه واعترافـًا بأحقية دينهم وصحته -ولو تحت الضغط والمساومة-.

ماذا يستفيد هؤلاء المشركون من موافقة عابر سبيل يعلمون أنه يُظهر غير ما يبطن، وأن غرضه العبور وحسب؟! إنهم لا يطلبون منه مالاً ولا وقتًا، ولا أي أنواع من الكلفة، إنهم يطلبون منه أن يقر بمعبودهم وباطلهم، وقد نالوه بمجرد أن قال: "لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ"، ولم يكن تقديمه للذباب بعد ذلك إلا إلزامًا ألزم هو نفسه به عندما ذكر أن عذره أنه لا يملك شيئًا يتقرب به إلى هذا الوثن، مع أنه قد استحق العقاب بمجرد قوله قبل فعله.

"قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا": إنها مرارة الذل والحقارة التي يشعر بها المشركون؛ بسبب عقائدهم الحقيرة الفاسدة، يشعرون بألم عظيم عندما يرون عزة المؤمن الموحِّد بدينه واستعلائه به، وإعلانه صباح مساء في قوله: "أشهد أن لا إله إلا اله، أشهد أن محمدًا رسول الله" أن دينه هو دين الحق، وما عداه فأديان باطلة.

ينتزعون من ضعاف الإيمان أي قول أو فعل يكون مضمونه أو فحواه إقرارهم على شركهم وباطلهم؛ كي تهدأ نفوسهم، وتركن إلى أن دينهم لا يختلف كثيرًا عن دين أهل الحق فتكون تلك الأكذوبة حجة لهم عند أنفسهم وعند سفهائهم وعامتهم، وتكون تلك الأكذوبة حجة لهم بعد ذلك ضد أهل الإيمان يقولون لهم: "إياكم أن تقولوا: إن دينكم وحده هو دين الحق وما عداه فأديان باطلة فإنه لو كان ديننا باطلًا لما وافقنا فيه فلان وفلان من أهل ملتكم!".

ما أحب هذا الشخص لقلوب أهل الشرك، إنه يقدِّم لهم خدمات لا يستطيع القيام بها أحد ينتسب لدينهم وملتهم، مهما بلغت فصاحته وحجته، ومهما بلغ عزمه وجهده، إنه يزرع في قلوب أهل الباطل الثبات على باطلهم وكسر حاجز الذل والشعور الذاتي بالخطأ والذنب، هذا الشعور الذي قد يكون في يوم من الأيام هو نواة الهداية والرجوع إلى الحق، ولذلك يحرص كهنة الملل الباطلة على محاربة هذا الشعور الذاتي، ومحاولة إزالته من قلوب الأتباع.

ولذلك فالمسلم مأمور أن يظل دومًا معتزًا بدينه وتوحيده مستعليًا بإيمانه وعقيدته مظهرًا البغضاء والبراءة من أهل الكفر والشرك، وهذا هو الحد الأدنى في دعوة الناس إلى دين الله تعالى، فإن لم يتيسر مجادلتهم ومناظرتهم، وبيان الحق، وتفنيد الشبه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؛ فليس أقل من أن يبقى التمايز والتضاد واضحًا وضوح الشمس بين الإيمان والكفر، وبين أهل الحق وأهل الباطل، تمايزًا لا يلتبس على أدنى إنسان من الفريقين.

الذي يوالي المشركين والكفار ويقر لهم ببعض باطلهم يلبس الحق بالباطل، ويصد عن سبيل الله، ويزهِّد المشركين في دين الإسلام، وينفـِّرهم عن الدخول فيه؛ لأنه لماذا ينتقل من دين نشأ وتربى عليه، وأهله وأحبابه ومعارفه كلهم عليه إلى دين يقر أصحابه أن الفارق بسيط، وأنهم يتمنون له السلامة والسعادة في دينه، وأن يهنأ وينعم بالباطل الذي هو عليه؟!

الذي يوالي المشركين والكفار يسعى لطمس نور الإيمان في قلوب المسلمين بعد أن خمد النور في قلبه، كأنه يقول لهم: لا داعي لاعتزازكم واستعلائكم بدينكم، فهو مثل باقي الأديان أو أن الفارق بينه وبين غيره بسيط، لا يستحق أن نقف عنده أو أن نظهره ونتخاصم عليه!

استحق هذا المار دخول النار مع أنه لم يرد إلا المرور؛ فهل يظن مَن يفعل ذلك أنه يجلب إلى نفسه أو إلى دينه مصلحة أو يدفع عنهما ضر؟!

إنه يضر نفسه ودينه، ويجلب على مَن يصدقه ويتبعه نار جهنم -والعياذ بالله.

الذي يوالي المشركين والكفار كفاه إثمًا أنه أدخل الفرح والسرور إلى قلوبهم، وأدخل الحزن والنكد بفعله على قلوب أهل الإيمان.

الذي يوالي المشركين والكفار لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا بعد أن يعادي أهل الإيمان الذين لا يرضون فعله؛ لأنه لا يرضي رب العالمين؛ فولاؤه لأهل الكفر لا بد أن يكون على حساب ولائه لأهل الحق.

الذي يداهن الكفار والمشركين قد يمرروه -إن مر- في هذه الحياة الدنيا، ولكنهم ليس بوسعهم أن يجعلوه من أهل الجنة أو أن ينقذوه من عذاب النار.

المؤمن الذي قتله المشركون؛ لأنه رفض أن يقرب شيئًا لغير الله تعالى رأى بعينه أنهم قد مرروا صاحبه الذي قدَّم ذبابًا، وهو يريد أن يمر مثله، ومع ذلك امتنع أن يداهن في دين الله تعالى بذبابة؛ فضلًا أن يداهن بما فوقها.


المصدر: أحمد الفيشاوي

<