نسير إلى الله بقوتين

ملفات متنوعة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونستعيذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمد عبده ورسوله.

قبل البدء والاسترسال في كتابة هذه الأسطر البسيطة التي أرجو فيها لي الأجر ولقارئها أيضا، أحب أن أنوه أن هذه المقالة أستند فيها إلى ما جاء في كتاب ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (طريق الهجرتين وباب السعادتين) فكلنا أحبتي في الله بولادته ينطلق تعداد النقصان في عمره، فكلما انتقل عقرب الساعة من منزل إلى آخر كلما تزايد النقصان في عمرنا؛ فإن كان لمولود فالفرح لهذه الزيادة، وإن كان لمُحْتَضَر أسفنا لها، وأما من كان في مرحلة التكليف فمناط الفرح والسرور والحزن والحبور متعلق بأحواله التي يتقلب بها في هذه الدنيا.

وكما يقال: أن الإنسان بولادته ينطلق له سهمان يطلبانه؛ سهم يدركه الساعة بالساعة، وسهم لا يدركه إلا بتقدير الله العزيز العليم، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن الرزق ليطلبك كما تطلبه، ولن تموت نفس من الدنيا حتى تستوفيه، فأجملوا في الطلب»، أما السهم الأول فسهم الرزق، وهذا مفهوم الحديث الشريف، وأما السهم الآخر فهو سهم الموت، وهو سهم يسافر إلينا بقدر الله ولن يصيبنا حتى يتحقق قضاء الله ونستوفي رزقنا، غير أنّا غفلنا عن هذه الحقيقة، حتى ما عادت تمثل أمامنا حقيقة أنا مسافرون كما يجب، قال تعالى: { نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فتخلقنا بأخلاق المقيم وأتينا عاداته من الركون والسكون والاطمئنان ونسينا طالب الله (الموت).

ولنعلم أننا نسير إلى الله تعالى صالحنا ومسيئنا، ولكن السؤال: ما هي عدتنا في هذا المسير؟ وما مقالي هذا إلا كي أساعد نفسي وكل أحد من أحبتي في الله تعالى لتبيان الصنف من الناس الذي ننتمي إليه، وبالتالي كيف سيكون وصولنا: يقول ابن القيم: "لا يتم وصول السائر إلى الله إلا بقوتين: قوة علمية وقوة عملية. أما الصنف الأول من الناس فهو من غلبت فيه القوة العلمية: فهو يبصر منازل الطريق؛ ومواضع السلوك، فقوته العلمية كنور عظيم في يده يمشي به في ليلة شديدة الظلمة، فيكشف له النور عن أمرين: أعلام الطريق، ومنزلقاتها. إلا أن هذا الصنف من الناس ضعيف من
حيث قوة الإرادة، والإقبال على العمل بما يعلم، فهو يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها وإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف من حيث الإتيان بالعمل المنكر واختلف عنهم في العلم؛ فهو يعلم أن العمل منكر غير أنه غلبت عليه شهوة نفسه، أو هواه، أو كان صده لموج التخلف دون ما وقر في نفسه من حقيقة العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم والمعصوم من عصمه الله تعالى، ولا قوة إلا بالله". رُوِي عن بني إسرائيل: "يقول الله: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، ولكنّي إنما أنظر إلى همتِه". يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي "الشهيد" يوم القيامة فيذكره الله تعالى بنعمه عليه فيذكرها، فيقول له: فما صنعت فيها؟ فيقول: خرجت بمالي وبنفسي وجاهدت في سبيل الله، فيقول: كذبت! خرجت ليقال فلان شجاع، وقد قيل، ويؤتى بالعالم فيعرفه الله نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا فعلت بها؟ فيقول: تعلمت وعلمت ليعلم دينك، فيقول: كذبت! إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل».

وأخي وحبيبي أيها العالم أو المتعلم قد يكون من أصعب ما يمكن أن تدركه: هو الحكمة من فقد المتعة في العلم الذي تتعلمه أو تعلمه، وهو أنه رُوِي أنّ الله سبحانَه يقول: "إنّ أدنَى ما أنا صانعٌ بالعالمِ إذا أحبَّ الدنيا أن أَمنعَ قلبَه حلاوةَ ذِكري".

أما الصنف الثاني من الناس فهو من تكون له القوة العملية (الإرادة القوية) هي الأغلب في القوتين، وهذه القوة تقضي السير، والسير هو عمل المسافر، ونحن كذلك( خلق الله تعالى) فكلنا سائر إلى الله تعالى مسافرون إليه، بعضنا على شرف الوصول وبعضنا قد بدأ المسير، غير أن هذا الصنف من الناس بهذه القوة قد تحصل على نصف السعادة والفلاح، وهي سعادة منقوصة لا تفارق ساعتها، فهذه القوة غير مؤهلة لصد الشبهات والانحرافات في السلوك والعقائد عن صاحبها، فهو أعمى في ما يستجد عليه من الأقوال والأعمال والمقامات، وهؤلاء هم أرباب الفقر (العلمي) والتصوف والسالكين على غير طريق العلم بل هم سائرون على طريق الذوق والوجد والعادة. فهؤلاء ما عبدوا الله تعالى على علم وصراط مستقيم بل بما جاء به هواهم وفيهم قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].


أما الصنف الثالث؛ فهو من تزود بالقوتين: القوة العلمية والقوة العملية (الإرادة)، وهذا هو من استقام له السير إلى الله تعالى، وكان قائما على سعادة متولدة من التنعم بذكر الله تعالى والجد في السير إليه، وكانت له قوة الرد على القواطع من الشبهات والموانع التي تحول بينه وبين ما يتمتع به من السعادة، وقدر السعادة التي ينالها هذا الإنسان بقدر علمه وجده في السير إلى الله تعالى، فإن تكالبت الموانع وكثرة الشبهات وقواطع السعادة على الإنسان، وضَعُفَ هو في طلبه للعلم وخبت همته أصابه جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء إلا أن يتداركه الله برحمته من حيث لا يحتسب فيأخذ بيده ويخلصه من هذه القواطع، وأقل الجهد ما قاله علماؤنا: لا يمر عليك يوم لا تقلب فيه نظرك في المصحف أو تدرك والديك بحسنة لعلك تفوز منهم بدعوة تصيب مقتل الفتن في قلبك أو تسعى إلى أرملة أو فقير. أخي في الله تعالى إن إدراك الانتماء إلى هذا الصنف الثالث من الناس لا يكون إلا بتمثل حقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال( أي؛ استظل) في ظل شجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها». فمتع الدنيا وفتنها والركون لحسن الظن بغير العمل فيها والاستسلام للدعة والاطمئنان إلى حظ النفس منها هي ذلك الظل الوارف للدنيا، وهو ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هذه المقال دعوة للزهد والتصوف، وترك متع الحياة الدنيا وإنما تحقيق لقول الله تعالى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، قال مجاهد: "خذ من دنياك لآخرتك، أن تعمل فيها بطاعته".

أخي الحبيب في الله تعالى، ألفت النظر في النهاية أني لا أقول في هذا المقام أن يكون كل منا عالم في الفقه أو القرآن أو علوم الشرع، ولكن العلم المقصود هنا هو العلم النافع لنفسه في آخرته ودنياه وقد يكون في أي حقل من الحقول العلمية أو الأدبية أو الفنية، وأخي بتكامل أخذنا من العلوم كلها سدنا العالم في يوم من الأيام وحققنا الذروة في عصور كان غيرنا يقبع في ظلمات الجهل العلمي والفضاء النفسي، أحبتي في الله هذه دعوة لأخذ من كل علم من العلوم زهرة، ومن أحدى بناء حديقة.

في الختام ما كان من خير في هذا المقال فهو من الله تعالى و أبريء نفسي من حظها فيه، وما كان فيه من خطأ أو ضلال فمن نفسي الأمارة بالسوء وأرجو ممن وقف على شيء منه متابعتي فيه وقد رجعت عنه.

أخوكم الدكتور محمد الشقيري.

<