العلاقة السوية بين الراعي والرعية

الشيخ محمد بن شاكر الشريف


كثير من الناس الذين يتولون مناصب قيادية ينسون حقيقة وضعهم، فيظنون أنهم أصلاء في وظائفهم، بمعنى: أن هذه الوظيفة هي استحقاق لهم بمقتضى نسبهم أو وجاهتهم في المجتمع وطيب أصلهم، ومن ثم يتعاملون مع من تحت قيادتهم من الناس باستعلاء كبير، فلا يستشيرونهم ولا يقبلون منهم اعتراضًا أو اقتراحًا، وكلما علا المنصب القيادي تبدى هذا الأمر في أوضح صوره، حتى أضحت البلدان وكأنها ملكية خاصة لقادتها، يفعلون ما يشاءون ويتصرفون كما يريدون من غير اعتبار لشعوبهم، ويتصرفون في الأموال العامة وكأنها ملك خاص لهم، فلا تستطيع أن تدرك الفرق بين ملكية الدولة والملكية الخاصة لأحدهم، والويل لمن يعترض أو يسأل ويقول عن هذه التصرفات: لماذا...؟ وأين...؟ وكيف...؟

لقد أوجد هذا الاستعلاء بالباطل فجوة عميقة بين القادة وجمهور الناس، تمثلت في عدم مبالاة القيادة بمطالب جمهور الناس أو حوائجهم، وترتب عليه بطش القيادة بالناس والسخرية منهم، وفي مقابل ذلك تجذرت كراهية الناس للقيادة التي لا تبالي بشعوبها، ومن ثم تربص كل فريق بالآخر وحرص كل فريق على تحقيق أهدافه بأي سبيل، أما القيادة فبالقوة والقهر، والأدوات القانونية من محاكمات وسجون ونحوها، التي تكاد تكون حكرا عليهم، وأما الجمهور فلم يكن أمامه إلا بعض الوسائل التي ينفس بها عما يفور في داخله فوران المرجل (كالمظاهرات أو الاعتصامات ونحو ذلك..).

وليست هذه هي الحالة السوية التي ينبغي أن تكون الإطار الذي يحكم العلاقة بين الراعي والرعية، فالمفترض في العلاقة السوية أن تكون علاقة المحبة المتبادلة، وحرص كل فريق على الآخر، كل منهم يحاول بما في يديه وتحت تصرفه أن يوصل للآخر ما ينفعه ويحتاج إليه، يوضح ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» (الراوي: عوف بن مالك الأشجعي، صحيح الجامع). والصلاة هنا معناها: الدعاء فالعلاقة بين (الراعي والرعية) علاقة (التراحم والمحبة) فكلاهما يحب الآخر، فلا الراعي يظلم الرعية، ولا الرعية تبغض الراعي وتحقد عليه، بل يصل التراحم بين الفريقين إلى حد أن يدعو كل منهم للآخر، وذلك بعكس شرار القادة، التي يكون إطار العلاقة بينهم وبين رعاياهم قائمة على الكراهية والبغضاء، بحيث يلعن كل فريق منهم الآخر، ومثل هذه الحالة يكون مردودها مزيد من تفكك المجتمعات مما يوجد بيئة صالحة كي تنمو فيها عمليات الاختراق من قبل أعداء الملة والأمة، مما يؤدي إلى ضعف الترابط في المجتمع ومن ثم انهيار الجبهة الداخلية..

وقد حرصت الشريعة في كل مصادرها على تلافي هذه النتائج والآثار كلها، بأن تكون العلاقة بين (الراعي والرعية) قائمة على المحبة والتواد والتناصح، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدين النصيحة» (الراوي: تميم الداري، صحيح الترغيب) ثم بين أنها لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقال أيضا: «ثلاثة لا يُغِلُّ عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (الراوي: جبير بن مطعم، صحيح ابن ماجه). ومعنى قوله لا يُغِل عليهنّ قلب مؤمن أَي لا يكون معها في قلبه غَشّ ودَغَل ونِفاق، ولكن يكون معها الإِخلاص في ذات الله عز وجل، فهذا في نصيحة الرعية للراعي وموقفهم منه ومناصرتهم له، ولأن العلاقة قائمة على التبادل في إرادة الخير والنفع من كل فريق للآخر، فكما كان هذا مسلك الرعية فكذلك مسلك الراعي، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر الراعي الذي يهمل في سياسة رعيته ولا يجتهد في مصالحهم الدنيوية والأخروية ولا ينصح لهم، لأنه قصر فيما وجب لهم عليه فقال: «ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة» (صحيح مسلم). أو يظلمهم ولا يعدل معهم في تعاملاته ويميز بينهم بلا مسوغ فقال: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولا يوم القيامة يده إلى عنقه، فكه بره أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة» (الراوي: أبو امامه الباهلي في صحيح الترغيب)

وقال صلى الله عليه وسلم فيما ينبغي أن يكون بين الراعي والرعية: «إنما الإمام جُنَّة، يقاتل من ورائه، ويُتقى به» (الراوي: أبو هريرة في صحيح الجامع). ومعنى الإمام جنة أي: كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته، ومعنى يقاتل من ورائه أي: يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج، وسائر أهل الفساد وينصر عليهم، ومعنى يُتقى به أي: شر العدو وشر أهل الفساد والظلم مطلقًا.

لو تدبّر الخلق جميعهم الراعي والرعية تلك المعاني المتقدمة وعملوا بها وحرصوا على إنفاذها لكان في ذلك الخير كله، الذي يلف البلاد والعباد بالأمن والاستقرار، ويقيها شر التطاحن والانقسام.