الجزاء من جنس العمل

محمد نصر


ذكر الله تعالى صفة إهلاك قوم شعيب في ثلاثة مواطن في القرآن، وفي كل مرة جاءت بصفة مختلفة فمرة بالرجفة وأخرى بالصيحة وثالثة بالظلة، فما هي الحكمة من تنوع أسباب الهلاك؟ ولماذا اختصت كل سورة بذكر سبب معين دون الآخر؟!

للحافظ ابن كثير كلاما يكتب بماء الذهب حاول من خلاله تدبر طريقة الإهلاك وشرح معناها وربط بينها وبين المعصية الواردة في كل سورة منها ثم ختم ذلك بطريقة رائعة بأن الجزاء من جنس العمل، فأذنت لنفسي أن أتطفل عليه وأقتبس منه بإختصار بعض الشيء وأضيف إليه من كلام ابن القيم لعله أن يكون فيه فائدة.

في سورة "الأعراف" ذكر الله تعالى إهلاك قوم شعيب بالرجفة: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُ‌ونَ . فَأَخَذَتْهُمُ الرَّ‌جْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِ‌هِمْ جَاثِمِينَ . الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِ‌ينَ} [الأعراف: 90 - 92]، أخبر سبحانه وتعالى ها هنا أن قوم شعيب أخذتهم الرجفة (أي الزلزلة) كما أرجفوا أصحاب شعيب عليه السلام وتوعدوهم بالجلاء {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُ‌وا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِ‌جَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْ‌يَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الشعراء: 88]، أرجفوا: أي أخافوا، فالإنسان تصيبه قشعريرة عند الخوف الشديد، فلما أرجفوهم ناسب أن تكون العقوبة المذكورة هي الرجفة.

كما أخبر سبحانه وتعالى عنهم في سورة "هود" أنه تم إهلاكهم بالصيحة، فقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُ‌نَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَ‌حْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِ‌هِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94]، والمناسبة في ذلك والله أعلم أنهم لما تهكموا بنبي الله شعيب في قولهم: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُ‌كَ أَن نَّتْرُ‌كَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّ‌شِيدُ} [هود: 87] فجاءت الصيحة فأسكتتهم.

وأخبر سبحانه عنهم في سورة "الشعراء" أنهم أهلكوا بالظلة، فقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]، وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]، فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم.

وقد اجتمع عليهم ذلك كله: أصابهم عذاب يوم الظلة، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس وخمدت الأجساد، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِ‌هِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: ٩١].

فهكذا دوما الجزاء من جنس العمل، وإذا راجعت ما ورد في الكتاب والسنة عن أنواع العذاب في البرزخ لوجدت الفاجر يعذب فيه على حسب أعماله ويختص كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو، فتقرض شفاه المغتابين الذين يمزقون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار، وتسجر بطون أكلة أموال اليتامى بالنار، ويلقم أكلة الربا بالحجارة ويسبحون في أنهار الدم كما سبحوا في الكسب الخبيث، وترض رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم، ويشق شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد كما شقت كذبته النواحي، ويحبس الزناة والزواني في التنور المحمى عليه فيعذب محل المعصية منهم وهو الأسافل، وتسلط الهموم والغموم والأحزان والآلام النفسانيه على النفوس البطالة التي كانت مشغولة باللهو واللعب والبطالة فتصنع الآلام في نفوسهم كما يصنع الهوام والديدان في لحومهم حتى يأذن الله سبحانه بانقضاء أجل العالم وطي الدنيا.

ولعلي أريد أن أختم بحديث عن رحمة الله طمعا في أن يغفر الله لنا:
عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها فهل لذلك من توبة؟
قال: فهل أسلمت؟
قال: أما أنا فأشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن.
قال: وغدراتي وفجراتي؟
قال: نعم.
قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى.
[رواه البزار والطبراني وإسناده جيد قوي. قال فيه الهيثمي، رجاله رجال الصحيح.

الحاجة: الذنب الصغير، الداجة: الذنب الكبير.

أسأل الله أن يجنبنا وأهلينا والمسلمين الذنوب والمعاصي وأن يجعلنا هداة مهتدين.

جمع وترتييب
محمد نصر