قضية فلسطين بين العقيدة والسياسة

الشيخ ياسر برهامي

تعتبر فلسطين قطعة من قلب كل مسلم، إذ فيها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ثاني مسجد وضع في الأرض على التوحيد بعد المسجد الحرام..


تعتبر فلسطين قطعة من قلب كل مسلم، إذ فيها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ثاني مسجد وضع في الأرض على التوحيد بعد المسجد الحرام.

وقد أسست القدس على الإسلام كمكة المكرمة، وجعل الله سبحانه وراثتها -بل كل الأرض- لعباده الصالحين الموحدين المؤمنين، قال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف]، ومن هذا المنطلق خرج الصحابة رضي الله عنهم من المدينة المنورة فاتحين لمشارق الأرض ومغاربها، ولم يكونوا مالكين قبل ذلك لمصر والشام والعراق وغيرها من البلاد، ولا لهم فيها حقوق تاريخية كما يقولون، وإن شئت قلت: بل لهم كل الحقوق التاريخية، لأن الوراثة الحقيقية لآدم عليه السلام ثم لجميع الأنبياء والرسل مبنية على العقيدة والإيمان لا على مجرد النسب والقومية.

ومن هذا المنطلق استحق بنو إسرائيل لما كانوا على الإسلام والإيمان زمن موسى وهارون ويوشع بن نون وراثة الأرض المقدسة -بل أرض مصر أيضاً- بنص القرآن: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} [الأعراف: 137]، فنحن لا نرى في وراثة موسى ومن معه من المؤمنين المسلمين لأرض مصر احتلالاً إسرائيلياً بل فتحاً إسلامياً، قال تعالى عن قوم فرعون: {فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم} [الشعراء: 57-58]، فلما زال إيمان بني إسرائيل وإسلامهم بالكفر: زال استحقاقهم! وكذلك في أرض فلسطين، فإنهم لم يستحقوها لمجرد أنهم أبناء يعقوب -إسرائيل- عليه السلام، بل لكونهم مسلمين مؤمنين، قال تعالى: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} [يونس: 84]، ومن نفس المنطلق استحق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أرض يهود المدينة وديارهم وأموالهم، قال تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها} [الأحزاب: 27]، فلم يستحقوها بوصفهم عرباً بل بوصفهم من المسلمين، نصرهم الله على كفار بني إسرائيل، ولو كانوا من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.

ومن نفس المنطلق لا يملك مسلم أن يقر بحق إسرائيل اليوم ولا غداً إلى يوم القيامة في أرض فلسطين، ولا أن يعترف بأن لليهود وطناً لهم في القدس ولا غيرها، ولا يستطيع أحد أن يغيرعقيدة أهل الإسلام في أن أرض فلسطين -بل العالم كله- مآله لأهل الإسلام، وأن ذلك سيتحقق تماماً بإذن الله في زمن نزول المسيح عليه السلام، ليحكم الأرض بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، القائل في الحديث المتفق على صحته: «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية»، أي لا يقبلها، وعند ذلك سيؤمن من بقي من أهل الكتاب من اليهود والنصارى قبل موت المسيح بعد نزوله للأرض، قال تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159]، وإذا كانت كامب ديفيد لم تغير عقيدة يهود في استحقاقهم الأرض من الفرات إلى النيل، ولا تزال خريطة إسرائيل على باب الكنيست كذلك بعد المعاهدة، ولم تغير إسرائيل علمها؛ نجمة داوود بين خطين أزرقين رمزاً لملك إسرائيل بين النهرين، فلماذا يريدون منا أن نغير عقيدتنا في استحقاق أرض الإسلام لأرض فلسطين؟ ولماذا يشترطون علينا أن ننقل للأجيال القادمة قتل الرجاء المنشود -بل اليقين الموعود-؟، فالله لا يخلف الميعاد.

ليس من حق أحد أن يطلب منا ذلك، وإن كنا نعرف الفرق جيداً بين المطلوب المرجو وبين الممكن المتاح، وهذا الذي تبحث فيه السياسة، وهو الذي يقدر بالمصلحة والمفسدة والقدرة والعجز، فلا يمكن أن نغفل الموازين عن الأرض لأننا أمرنا بذلك شرعاً: {فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين} [الأنفال: 66].

ولكن يجب كذلك ألا نسمح بتغيير عقيدتنا وثوابتنا التي يجب أن تنقل للأجيال القادمة واضحة كالشمس، بخلاف ما يريده الأعداء من طمس التاريخ وقتل الرجاء في المستقبل، ولن يكون أبداً، ولا نسمح بأن تغير السياسة العقيدة، ولا نسمح للنسبي أن يغيرالمطلق، ولا نرضى بأن يمحو المتغير الثوابت: {ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 88].
 


المصدر: موقع صوت السلف