لماذا نتأخر؟

الشيخ ياسر برهامي

يعتب البعض علينا وربما يلوم، وربما يعيب، وربما يطعن؛ من أجل تأخرنا في إعلان الموقف من قضية الترشيح للرئاسة قبل إغلاق باب الترشح، وربما قال البعض: "إن الوقت قد فات حتى لو ترشح مَن هو أفضل مِن المتقدمين الآن، فاللازم الاختيار من بين الموجودين الآن"..



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيعتب البعض علينا وربما يلوم، وربما يعيب، وربما يطعن؛ من أجل تأخرنا في إعلان الموقف من قضية الترشيح للرئاسة قبل إغلاق باب الترشح، وربما قال البعض: "إن الوقت قد فات حتى لو ترشح مَن هو أفضل مِن المتقدمين الآن، فاللازم الاختيار من بين الموجودين الآن".

مع أن التأخر حاصل من أكبر فصيلين إسلاميين منظمين: الإخوان المسلمين، والدعوة السلفية، الذين حققا -بفضل الله، ثم بفضل وحدة كيان كل منهما- أكبر تحول سياسي في البلاد، بل في المنطقة منذ نحو قرنين من الزمان.

ووحدة الكيان والالتزام بموقف واحد له -وإن اختلفت الآراء داخل كل منهما في مرحلة التشاور- ضرورة أكيدة لأصل وجوده، ولأثره ووزنه في المعادلة الصعبة التي تعيشها الأمة، وتحتاج لحلها وتوازنها.

وإن كان كثير من الطاعنين والمخالفين هدفهم في الحقيقة هدم الكيان بوعي أو بغير وعي؛ ليستريح مِن تبعات العمل الجماعي الذي لم يتعود على ممارسته، ولم يذق ثمرته، مع اليقين بأن الكيانات الصغيرة فضلاً عن الأفراد لن يمثلوا رقمًا في المعادلة؛ فليس التسرع بالانفراد في القرارات المصيرية هو الدليل على قوة الشخصية أو حرية التفكير أو عدم الحزبية، بل هو دليل على عدم تقدير ثقل التبعة وعظم المسئولية.

وأظن أن اتفاق الفصيلين الإسلاميين الكبيرين على مرشح واحد في حالة حصول ذلك مهما تأخر سوف يقلب الموازين في القضية ويغيِّر الحسابات؛ لأن الملايين التي صوتت لهما في الانتخابات كانت لا تعرف أشخاص المرشحين في الغالب، إنما حبًا في الإسلام ورغبة فيه، وثقة في القيادة التي يحاول البعض الآن هزها، بل تدميرها.

وللجواب عن السؤال: لماذا نتأخر؟!

نقول: أولاً: إن قرار تحديد المرشح للرئاسة قرار مصيري هائل وخطير، فإن مصر "قلب الأمة العربية والإسلامية"، ونجاحها أو فشلها في المشروع الإسلامي سوف يحدد مستقبل العالم لعقود عديدة، وأجيال كثيرة إن شاء الله، فإدراك قدر المسئولية في اتخاذ مثل هذا القرار يدفع أي عاقل فضلاً عن القيادة المسئولة عن الملايين إلى التريث والتمهل، وإعطاء التشاور حقه، والتضرع والافتقار إلى الله، والاستخارة، وكثرة الصلاة والصوم والصدقة؛ فالصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والكل يعلم كيف تأكل السياسة الوقت، وتقلل من نصيبنا الضروري من هذه العبادات.

ثانيًا: إن اتخاذ القرار يستلزم دراسة عن قرب لكل الشخصيات، وليس من خلال الأداء الإعلامي فقط، أو مجرد الإعلان عن رغبة في تطبيق الشريعة "فالكل يحسن ذلك"، بل لا بد من تقييم للبرنامج ومدى واقعيته، والشخصية وكيفية اتخاذها للقرار، وتوازن الحالة النفسية المؤثرة على ذلك، ودراسة للفريق المحيط، والفريق المعاون الذي له بالتأكيد أثر كبير على رئيس الأمة القادم.

كما لا بد من مراجعة دقيقة وشاملة للمواقف السياسية والمنهجية والعقدية قبل الثورة وبعدها؛ فهي بلا شك تحدد مسار هذه الشخصية في المستقبل، وما زلتُ أتعجب من أن أكثر مَن اتخذ القرار بسرعة هو الأبعد عن دراسة هذه الجوانب المختلفة!

ثالثًا: إن اتخاذ القرار يحتاج لدراسة دقيقة ومتأنية لجميع أرقام المعادلة الصعبة، بل شديدة الصعوبة: داخل البلاد، وفي المنطقة، وعالميًا؛ فلسنا وحدنا لا في ساحة العمل الإسلامي، ولا في ساحة العمل المصري، ولا في الساحة العالمية، وإهمال موازين القوى مِن موافقين ومخالفين، وأولياء وأعداء بزعم التوكل على الله؛ خطر هائل، لا أدري كيف يُبرر شرعًا وعقلاً؟!

وأتعجب من الشباب الضاغطين على الشيوخ ضغطًا هائلاً لسرعة كتابة نتيجة المعادلة وحلها؛ لمجرد الأداء الإعلامي، ونحن لا نشك في وجوب التوكل على الله، وأننا يستحيل أن نرضي الأعداء إلا باتباع ملتهم، ووالله ما أرضيناهم في فترة الاستضعاف والخوف، والكل يعلم كم كان ثمن ذلك.

كذلك لا نشك في وجوب حساب القوى وقراءة الأرقام كلها كهدي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم؛ وإلا كانت الإجابة الخاطئة، وكان السقوط والرسوب، وأظن أن تضييع المشروع الإسلامي مع الخيال الحالم بتحقيقه هو خطيئة حقيقية بسبب هذه الإجابات الخاطئة، وأشبه مثال لذلك: امتحان صعب دخله طلبة كثيرون، أدرك الطلاب المتفوقون من أول وهلة مدى صعوبته فانهمكوا في الإجابة، وطلبوا من المراقبين وقتًا إضافيًا لو أمكن، وأجاب مَن لم يذاكر المنهج ولم يراجعه، بل لم يفتحه أصلاً إلا قراءة العناوين، وسلم الورقة، بل طلب جمع الأوراق من جميع الطلاب قبل انتهاء الوقت المحدد وإلى الله وحده المشتكى!

رابعًا: إن غياب الشخصية الجامعة لمعظم الإيجابيات الخالية من معظم السلبيات، ووجود كثير من السلبيات والإيجابيات في حسبة واحدة يجعل الموازنة بميزان الشريعة ومدى تقدير درجة السلبيات والإيجابيات في أرض الواقع أمرًا ليس سهلاً بالمرة، فالموازنة بين الخير والشر عند أهل الإيمان محسومة، ولكن المفاضلة بين خير الخيرين وشر الشرين في جوانب عديدة أصعب بكثير مما يظنه البعض؛ الذين لم يفكروا في سماع أو رؤية إيجابيات مَن لم يوافقهم، وسلبيات مَن وافقهم؛ فصار النظر بعين واحدة!
 

وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** وعـيـن السخـط تـبـدي المساوي



خامسًا: إن من أشراط الساعة تقارب الزمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة البركة في الوقت من ذلك.

ومعاناة مَن يُطلب منهم عبادة في أنفسهم، وإصلاح في قلوبهم، ومسئولية في أُسرهم وكسبهم، وعمل في العلم وطلبه وتعليمه، وعمل في الدعوة ونشرها، ومسئوليات في العمل السياسي والحزبي للإعداد للانتخابات ودراسة لنتائجها، وتحديد مسئوليات العمل بعدها، وترتيب الصفوف داخليًا، ومعالجة المشاكل، وتقييم الشخصيات، ومتابعة الإعلام، والإعداد لمهمات لا تقل أهمية عن قضية الرئاسة: كالهيئة التأسيسية لمراجعة مواد الدستور معاناة هائلة؛ فعلام الملام في التريث والتمهل؟!


أتضرع إلى الله تعالى بدعاء موسى عليه السلام: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ . وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:155، 156].

وأتمثل قول مؤمن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10].

والله المستعان وعليه التكلان وإليه المشتكى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نشرت بجريدة "الفتح" بتاريخ: الجمعة 23 ربيع الآخر 1433هـ - 16 مارس 2012م.