الأمة الشاهدة والنموذج المعيار

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}


الرسالة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم... وبعد:
مما لا شك فيه أن المعارف يعرفها الإنسان للتحريك والعمل بها وليست للتخزين، فخيركم من تعلم العلم وعلمه، فالعلم رصد ظاهرة وفلسفة العلم هي القوانين التي تحكم هذه الظاهرة وتنظمها وتطوعها وتنميها للاستفادة الكاملة منها.. يقول أهل العلم: "إدخالات سليمة مبنية على أسس وأركان صحيحة مجردة صافية من كل شائبة مؤمنة بالله وبتحرير الولاء من كل شيء إلا لله تبارك وتعالى، وكذلك وحدة فهم عميقة ومتطورة في إطار كتاب الله العزيز وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم المطهرة، وإخلاص تام لهذا ثم معالجة جيدة وتشغيل وتحريك.. لا بد أن يكون هناك المخرجات الناجحة.. ولا ننسى أننا جماعة من المؤمنين ولسنا كل المؤمنين، جماعة ربانية إصلاحية حركية تتحرك في عالمها بدعوتها لتقريب العباد إلى ربهم هدفها تحرير الوطن من كل سلطان أجنبي وإقامة الدولة الإسلامية العالمية وعلى رأسها الخلافة الإسلامية بعد أن تم إسقاطها وأصاب المسلمين جهل وتخلف كبير.. فعلى كل واحد منا أن يتنازل عن أجندته الخاصة لصالح الأجندة العامة وعليه أن يسد الثغر ويستر العيب ويداوي الجرح ولا يعقد الأمور.. فالمعارف والعلم كما قلنا للتحريك وليست للتخزين.


و"العلم صيد والكتابة قيد" كما يقولون، وإن العامل يعمل ويتحرك بدعوته وبعلمه لأداء الواجب أولا ثم ابتغاء الأجر ثانيا ثم المنفعة العامة ثالثا، وأخلاق الحرمان لا يقوم عليها نهضة ولا تقدم لأنها مهزومة نفسيا والخلل بداخلها، والمشروع الإسلامي هو محاكمة عقلية وإثارة وجدانية..

يقول أهل العلم: "أن المشروع هو فكرة تسعى للهيمنة بخطة زمنية وموارد اقتصادية، والنهضة هي فك القيود الحاضرة واستلهام النموذج الجيد المتدرج للأمام من القديم أو الحديث، والأمة هي مراد الله تبارك وتعالى في الناس ليسيروا على نهجه بتحكيم كتابه العزيز وذلك في أرض واحدة ليس فيها حدود ولا قيود وتشريعا واحدا وقيادة واحدة..

أمة تعمل وفق مراد الله تعالى، تتقن فن البلاغ عن الله ورسوله..

أمة تملك فائضا من القيم «لو أن فاطمة بنت محمدا سرقت لقطع محمدا يدها»، قيما تعلو الأفراد لا أفراد تعلوا القيم..
أمة تملك فائضا اقتصاديا، فالذي لا يملك خبزه لا يملك قراره، والبطون الجائعة لا تعرف إلا لغة الرغيف.
علينا أن نقرأ التاريخ بعين القائد الباحث الذي يبحث عن الحل.


لقد مرت الدعوة الإسلامية وحسب وصف الإمام الشهيد حسن البنا لها بسبعة مراحل:
- المرحلة الأولى: إعلان ميلاد الدعوة الجامعة وليست الدولة.
- المرحلة الثانية: قيام الدولة الإسلامية الأولى الدولة المعيار النموذج من 2هـ إلى نهاية عصر الخلفاء الراشدين.
- المرحلة الثالثة: بداية التحلل في كيان الدولة الإسلامية والتفريط في القيم والشكل السياسي وهي حكم الأسر الأموية والعباسية لكن الأمة ما زالت تتمسك بالثوابت.
- المرحلة الرابعة: الصراع والتدافع السياسي.
- المرحلة الخامسة: عصر الدويلات.
- المرحلة السادسة: انتصار المشروع الغربي وهيمنته على الحضارة الإسلامية والانهيار وسقوط الأمة سياسيا.
- المرحلة السابعة: اليقظة والصحوة الإسلامية وظهور دعوة الإنقاذ.

هذه هي الأمة الشاهدة وما مرت به من مراحل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}، أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون لله بالتوحيد ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا وما أخبروا به عن الله تبارك وتعالى، يشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب والأمة التي أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين وأفضل الخلق أجمعين لا بد أن تكون أمة منتصرة موحدة متحدة عزيزة قادرة على التحدي.


إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى على فترة من الرسل حيث كان الشرك والكفر في جميع بقاع الأرض فأخرج الله به الناس من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور الإيمان واليقين وبنى صلى الله عليه وسلم أمة إسلامية قوية عادلة مجيدة فحري بأتباعه أن يكونوا شهداء على الأمم الأخـرى، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدا ًعَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلى النَّاسِ}.

فقلوب الأمة العامرة بحب الله ورسوله وسلوكها يهتدي بسيرته وعملها يقتدي به صلى الله عليه وسلم ينبغي لها أن تكــون سراجــاً منيراً وسلوكاً حسناً وعملاً صالحا وأمة شاهدة قائدة للأمم..
عندما نستشعر نحن حجم تلك المسؤولية نريد من خلالها أن نفتح قلوب الناس إلى عمل الخير وهذا ما يستدعي أن نعيش الخلق الإسلامي الذي ينفتح على الخير والرحمة والسلام في مجتمعاتنا وبين شبابنا، وهذا هو طريقنا إلى الله وواجبنا الأساسي، فنحن في المجتمع نعمل سواء كنا في مجالس تشريعية أم لا، ومستقبلنا هو مستقبل الأمة لأننا نسيج من الأمة..


الأمة الإسلامية تواجه اليوم عدوا شرسا.. كشر عن أنيابه.. وأظهر ما كان مستورا في فؤاده.. هذا العدو لا يمكن أن يواجه بأناس ذوي همم ضعيفة.. ولا بأناس تعلقوا بدنياهم فكانت في قلوبهم "إن الدنيا لا تعطي حصادها إلا لمن يزرعها"، روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت الآخرة همه.. جعل الله غناه في قلبه.. وجمع له شمله.. وأتته الدنيا وهي راغمة.. ومن كانت الدنيا همه.. جعل الله فقره بين عينيه.. وفرق عليه شمله.. ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له»، يقول الحسن رحمه الله: "من نافسك في دينك فنافسه.. ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره"..

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت بانيها
فان بناها بخير طاب مسكنها *** وإن بناها بشر خاب بانيها


إنه في تاريخ الأمم كبوات وعثرات وآلام إلا أن الأمة الحية تنهض من كبوتها وتتجاوز آلامها بل تكون هذه الآلام باعثا لها على العمل والجد والكفاح حتى النصر، وفي تاريخ الأمة صعود وهبوط، ضعف الرجال في فترات تاريخية ثم أنجبت الأمة رجالا غيروا مسار التاريخ، وإذا كان تاريخ الأمة التي فضلها الله تعالى على غيرها من الأمم قد اختل فإن الحاضر الماثل أمامنا اليوم يدل على مولد الكثيرين الذين يستعدون لحمل راية الإسلام وتغيير مسار التاريخ من جديد.. ودعك من الذين يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم كمثل الرجل الذي انساق مع هوى صاحبه وصاحبه ظالم فباع آخرته بدنيا غيره..
إن الأحداث الجسام التي تمر بها الأمة تبعث الهمة وتوقظ العزائم.. هذا تاريخ الإسلام يحكي أن حالات الضعف والتردي وتسلط الأعداء في هذا المناخ.. تتحرك الأمة لكي تسترد التفكير السليم والعمل الجاد الذي ترد به المعتدي وتستعيد به عزها ومجدها.. في مثل هذه الأحداث تنجب الأمة أبطالا مجاهدين وعلماء عاملين.. عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» [رواه الترمذي].. وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته» [رواه ابن ماجه].. ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها.. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها» [رواه مسلم]، والله سبحانه أخي الحبيب هو عالم الغيب والشهادة، والغيب: علم ما بطن، والشهادة: علم ما ظهر، لا يخفى عليه شيء وإن دق وإن صغر، فهو سبحانه شهيد على العباد، ليس بغائب عنهم، شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم، وما تكن ضمائرهم، فالله سبحانه وتعالى قد شهد لنبيه بالرسالة بما أقامه من الأدلة والبراهين والمعجزات والنصر المؤزر وعلو ذكره في الأرض، وبهذا القرآن المعجز الذي أوحاه إلى نبيه الأمي وتحدى به العرب قاطبة فأعجزهم.

فينبغي لكل عامل أراد عملا صغر العمل أو كبر أن يقف وقفة قبل الدخول فيه؛ فيعلم أن الله شهيد عليه، فيحاسب نفسه، فإن كان دخوله فيه لله مضى فيه وإلا رد نفسه عن الدخول فيه وتركه.. أين طلاب المعالي؟ أين أصحاب الهمم العوالي؟ أين من يحب الله صنيعهم ويبارك مسيرهم؟ أين السباقون إلى الخيرات المبادرون إلى القربات؟ لا يفرغ من خير إلا بدأ بخير بعده.. لا ينفض يده من عمل إلا وضعها في عمل آخر يفيد نفسه وينفع أمته.. أين أهل الحقيقة العارفون بالله أولياءه وخاصته؟ {قلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}..
وللحديث بقيه بإذن الله تبارك وتعالى.
 


محمود أحمد حجازي آل النجار
 


المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

<