الشامل في فقه الخطيب والخطبة

الشيخ سعود بن إبراهيم الشريم

فإن الخطابة في الإسلام جزء لا يتجزأ من كيان الأمة الشامخ ، ولسانها
الناطق ، وحبر قلمها السيال ، وحركات بنانها الحثيثة ، لها شأن جليل ،
ومقصد نبيل ، وأثر ليس بالقليل ، هي منبر الواعظ ، ومتكأ الناهض ،
وسلوان من هو على دينه كالقابض ، لا يعرف وسيلة في الدعوة أقرب إلى
التأثير منها ، ولا وقع أشد - في التلقي بالقبول في نفوس الناس - من
وقعها ، وهي مهنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره ، ومبتدؤه وخبره
بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ، كما أنها ميدان الدعاة الرحب ،
ومنهل الظامئين العذب ، وسهل الواطئين الرطب .



وبالنظر إلى ما لهذا الأمر من عظم ، فإن التهاون بشأنه لخطب جلل ،
والنأي عنه فتوق وخلل ، ولأنك إذا أردت الحكم على أمة من الأمم في
ثقافتها ووعيها ، وفي صحتها وعيها ، فانظر إلى خطبائها وما تحويه
خطبهم ، وإلى منابرها وأين منها هم . ولقد علمت أن شيئاً من فقه
الخطبة في هذا الزمان قد اندرس ، ورأيت كثيراً من الخطباء على جهل
بأحكامها ، فلم يدر بعضهم ما تعلم منها وما درس ، فضعف التأهيل ،
وقلَّ التأصيل ، وغاب الدليل - إلا ما شاء الله - حتى ساءني مثل هذا
الواقع المرير ، فجعلني أقلب الحديث في خلدي بالتفكير ، وأزور كتاباً
في صدري للتسطير ، فأحيي به ما اندرس من فقه الخطيب والخطبة ، وأطفئ
به دخان هذه العُطبة، فكان الجمع لهذه النخبة ، بياناً لما في الخطابة
من عظم الرتبة ، موضحاً فيها ما أبهم ، ومبيناً في ثناياها ما أشكل ،
جامعاً متفرقها ، باسطاً مجتمعها ، منزلاً على الشرع نوازلها ،
مستعيناً في كل ذلك على الباري جلّ شأنه ، متلمساً منه الخروج بمادة
علمية واسعة فيما يخص الخطيب والخطبة ، فصار جلُّ ما جمعته مسائل
فقهية بحتة ، ودقُّه مسائل توجيهية ، ومفاهيم تصحيحية ، تدور محاورها
حول الخطبة والخطيب ، ثم رتبتها ترتيباً يتناسب مع ترتيب الخطبة
وأحوالها منذ دخول الخطيب ناصحاً إلى أن ينصرف من صلاته راشداً .




وقد كنت في زمن مضى أصدِّر أجزاء الخطب - التي ألقيتها من على منبر
المسجد الحرام - بمسائل فقهية لطيفة تحت عنوان ( بين يدي الخطيب ) ،
وذلك في كل من جزء من أجزاء خطبي المطبوعة والتي وسمتها بـ ( وميض من
الحرم ) فبلغت أربعة أجزاء ، وهي تمثل ما يقارب نصف هذا السفر الكبير
، وكانت قد لقيت قبولاً واسعاً ، ورواجاً حافلاً في نفوس كثير من طلبة
العلم والخطباء في داخل بلاد الحرمين وخارجها - فلله الحمد من قبل ومن
بعد - إضافة إلى كثرة الطلب في إخراج هذه الحلقات في سفر مستقل على
هيئة البسط والإسهاب ، فجمعت تلك الحلقات وأعدت بسط الكلام فيها ،
وأضفت إليها أكثر من ضعفها ، حتى خرجت بهذه الصورة القشيبة ، ثم إنني
حين استكملت هذا الكتاب في آخر شهر شعبان - من عام 1422هـ - دفعت
بمسوداته إلى أصحاب الفضيلة أئمة المسجد الحرام كمعالي الشيخ الدكتور
صالح بن عبدالله بن حميد ، وفضيلة الشيخ الدكتور / عبدالرحمن بن
عبدالعزيز السديس ، وفضيلة الشيخ الدكتور / عمر بن محمد السبيل - رحمه
الله رحمة واسعة ونور ضريحه ووسَّع مرقده - وذلك طلباً للإفادة منهم ،
فشجَّعوني على ذلك ، وشاطروني الرأي في أهمية مثل هذا الموضوع وأهمية
نشره ، فجزاهم الله عني خيراً وسدَّد على طريق الحق خطاهم .







وبعد تمام هذا الكتاب ، فإنني أذكر ما امتاز به في محتواه من الفوائد
الظاهرة لمن قرأه ورآه ، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وإذا عرفت
المبتدأ فلن يغيب ذهنك عن خبره، فكان من ذلك :



أولاً : أن هذا الكتاب خاص بفقه الخطيب والخطبة ، فلا يدخل في ذلك ما
يتعلق بالمأمومين كمسألة الإنصات للخطبة ، أو تنفلهم قبل الخطبة، أو
تبكيرهم لحضور الجمعة ، أو نحو ذلك.



ثانياً : أن هذا الكتاب جمع ما يزيد على مائة وثنتين وعشرين مسألة ،
كلها تخصُّ الخطيب والخطبة ، مما قد لا يوجد مجتمعاً بهذه الصورة في
غير هذا الكتاب حسب ما ظهر لي .



ثالثاً : أن هذا الكتاب جمع أكبر قدر ممكن من أقوال أهل العلم في هذا
الشأن ، من أئمة المذاهب الأربعة ، وأصحابهم ، وغيرهم من فقهاء السلف
، وذلك دون إطناب ممل ، ولا إسهاب مخل .



رابعاً : أن الأصل في المسألة التي أوردها برمتها هو مجرد الجمع
والنقل والتأليف ، إذ هو بحد ذاته جهد ليس بالسهل اليسير ، فقلَّما
أدلي بدلوي في كثير من المسائل بترجيح أو مطارحة . وإن دعت الحاجة إلى
شيء من ذلك ، ففي بعض المسائل التي ستتضح للقارئ خلال استقرائه لهذا
الكتاب .



خامساً : أن هدفي من عدم فصل القول في كل مسألة هو أهمية هذا الأمر ،
وصعوبته ، وتعدي مصلحته ، وشح الوقت المعين على ذلك ، مع قلة باعي ،
وقوة الناقد الواعي ، إضافة إلى حساسية هذا الموضوع ، وما ينتج عنه من
نسبة الإختيارات إلى شخصي - لاسيما في هذا الأمر المهم - مما قد يفتح
عليَّ الباب أمام مطارحات ومجادلات تعكر صفو هذا الكتاب ، فتعظّم
القشور ، ويهون اللباب ، وهذا مما لا طائل من ورائه ، ولا غرو في ذلك
إذ تتبع العثرات في هذا الزمن على قدم وساق ، وإلى التحاسد والتباغض
يكون فيها المساق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .



سادساً : أنني عزوت في الهامش جميع النقولات والموارد التي في الكتاب
من آيات وأحاديث ، وأقوال لأهل العلم ، من باب تقريب المصادر إلى
روادها ، وغرس الثقة في نفس القارئ بإثباتها .



سابعاً : أن هذا الكتاب يعدُّ أول مرجع بهذا الحجم الكبير ، والجمع
الحبير ، فيما يخص الخطيب والخطبة حسب ما بدا لي . وما قد جاء مؤلفاً
فيها ، فإنما هو من باب المختصرات الفقهية ، أو التوجيهات التربوية ،
والخطوات التنموية للقدرات الخطابية ، مع ما فيها من الفوائد والمُلح
.



ثامناً : أنني أفردت آخر مسألتين من هذا الكتاب بأمور لا يسع الخطيب
إغفالها ، ولا طالب العلم إهمالها ، وذلك لما فيها من النفع الكبير ،
والفائدة العظيمة من خلال ذكر النكت المتنوعة في هذا الإطار ، قد جمعت
شتاتها ، ولقطت نثارها إبان استقرائي لهذا الباب ، فرأيت أن إهمالها
خسارة ، وتقييد الأوابد منها تجارة ، وذلك متمثل في مسألتين :

إحداهما : أنني دونت ما وقفت عليه من فوائد لا يستغني عنها الخطيب ،
وهي في الوقت نفسه لا تحتمل أن تفرد في مسألة بحثية مستقلة ، فرأيت
جمعها تحت عنوان ( فوائد متنوعة ) ، فبلغت ستّاً وعشرين فائدة .


ثانيهما : أنني قيدت كل ما وقفت عليه من أقوال لأهل العلم حول مسائل
تخص الخطيب والخطبة تحت عنوان ( بعض ما قيل إنه مكروه أو من البدع في
الخطب ) فبلغت إحدى وأربعين مسألة ، ولم ألتزم فيها بإبداء موافقتي
للقائل أو مخالفته ، تغليباً لجانب النقل المجرد ، والإفادة المليحة ،
وربما أبديت رأياً في بعضها إن كانت مما ورد الحديث عنها في الكتاب .




هذه هي خلاصة ما امتاز به هذا الكتاب ، وما لم أذكره أكثر من ذلك ،
تركت الحكم عليه لقارئه ، وما ذاك إلا من فضل اله عليَّ وعلى الناس
ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، وسميته ( الشامل في فقه الخطيب والخطبة )
فما كان فيه من صواب فمن الله ، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان
، والله ورسوله بريئان من ذلك ، سائلاً المولى جل شأنه أن ينفع به
العباد ، وأن يجعله لي ذخراً ، ولحسن العاقبة مدخراً ، ويكفر به
سيئاتي ، ويرفع درجاتي ، وأن يجعله علماً نافعاً يتبعني أجره في قبري
ويوم أن ألقى الله ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب .
rar RAR 340KB