( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) يعني: كونوا قائمين بالشهادة بالقسط، أي: بالعدل لله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت، ( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) في الرحم، أي: قُولُوا الحقَّ ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين، فأقيموها عليهم لله، ولا تُحابوا غنيًا لغناه ولا ترحموا فقيرًا لفقره، فذلك قوله تعالى: ( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ) منكم أي أقيموا على المشهُود عليه وإن كان غنيًا وللمشهود له وإن كان فقيرًا فالله أولى بهما منكم، أي كِلُوا أمرَهما إلى الله. وقال الحسن: معناه الله أعلم بهما، ( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ) أي تجوروا وتميلوا إلى الباطل من الحق، وقيل: معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي: لتكونوا عادلين كما يقال: لا تتبع الهوى لترضي ربك.

( وَإِنْ تَلْوُوا ) أي: تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق ( أَوْ تُعْرِضُوا ) عنها فتكتموها ولا تقيموها ، ويقال: تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة، يقال: لَوَيْتهُ حقَّه إذا دفعتَه، ومطلتَه، وقيل: هذا خطاب مع الحكام في ليِّهم الأشداق، يقول: وإن تلووا أي تميلوا إلى أحد الخصمين أو تعرضوا عنه، قرأ ابن عامر وحمزة ( تَلُوُوا ) بضم اللام، قيل: أصله تلووا، فحذفت إحدى الواوين تخفيفًا، وقيل: معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا فتتركوا أداءَها ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ( 136 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) الآية، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نـزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأُسيد ابنى كعب، وثعلبة بن قيس وسلامّ بن أخت عبد الله بن سلامّ، وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مُؤمُنوا أهل الكتاب أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نُؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « بل آمِنُوا بالله ورسولهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والقرآن وبموسى والتوارة، وبكل كتاب قبله » ، فأنـزل الله هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبموسى عليه السلام والتوراة ( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) محمد صلى الله عليه وسلم، ( وَالْكِتَابِ الَّذِي نَـزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ) يعني القرآن، ( وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ) من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب .

قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو « نـزل وأنـزل » بضم النون والألف، وقرأ الآخرون « نـزل وأنـزل » بالفتح أي أنـزل الله.

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ) فلما نـزلت هذه الآية قالوا: فإنا نؤمن بالله ورسوله والقرآن وبكل رسولٍ وكتابٍ كان قبل القرآن، والملائكة واليوم الآخر لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

وقال الضحاك: أراد به اليهود والنصارى، يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بموسى وعيسى ( آمِنُوا ) بمحمدٍ والقرآن، وقال مجاهد: أراد به المنافقين، يقول: يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب وقال أبو العالية وجماعة: هذا خطاب للمؤمنين يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ) أي أقيمُوا واثبتُوا على الإيمان، كما يُقال للقائم: قُمْ حتى أرجع إليك، أي اثبت قائمًا، وقيل: المراد به أهل الشرك، يعني ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) باللات والعزى ( آمِنُوا ) بالله ورسوله.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ( 137 ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 138 ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ( 139 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ) قال قتادة: هم اليهود آمَنُوا بموسى ثم كَفَرُوا من بعد بعبادتهم العجل، ثم آمَنُوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازْدَادَوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقيل: هو في جميع أهل الكتاب آمَنُوا بنبيهم ثم كَفَرُوا به، وآمَنُوا بالكتاب الذي نـزل عليه ثم كفروا به، وكفرهم به: تركهم إيّاه ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقيل: هذا في قوم مرتدين آمنوا ثمّ ارتدوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدوا ثُمّ آمنوا ثم ارتدوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدوا .

ومثل هذا هلْ تُقبل توبته؟ حُكي عن علي رضي الله عنه: أنه لا تُقبل توبته بل يقتل، لقوله تعالى: ( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) وأكثر أهل العلم على قبول توبته، وقال مجاهد: ثم ازدادوا كفرًا أي ماتوا عليه، ( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) ما أقاموا على ذلك، ( وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ) أي طريقًا إلى الحق، فإن قيل: ما معنى قوله ( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) ومعلوم أنه لا يغفر الشرك إن كان أول مرّة؟ .

قيل: معناه أن الكافر إذا أسلم أول مرّة ودام عليه يُغفر له كفرُه السابق، فإن أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر لا يُغفر له كفرُه السابق، الذي كان يُغفر له لو دَامَ على الإسلام.

( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ) أخبرهم يا محمد، ( بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) والبشارة: كل خبر يتغير به بشرة الوجه سارًّا كان أو غير سار، وقال الزجاج: معناه اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب، كما تقول العربك تحيّتُك الضرب وعِتَابُك السيف، أي: [ بدلا لك ] من التحية، ثم وصف المنافقين فقال :

( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ) يعني: يتخذون اليهودَ أولياء وأنصارًا أو بطانة ( مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) أي: المعونة والظهور على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: وقيل: أيطلبون عندهم القوة والغلبة ، ( فَإِنَّ الْعِزَّةَ ) أي: الغلبة والقوة والقدرة، ( لِلَّهِ جَمِيعًا )

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( 140 )

( وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ) قرأ عاصم ويعقوب « نـزل » بفتح النون والزاي، أي: نـزل الله، وقرأ الآخرون « نـزل » بضم النون وكسر الزاي، أي: عليكم يا معشر المسلمين، ( أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ ) يعني القرآن، ( يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ) يعني: مع الذي يستهزئون، ( حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) أي: يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا إشارة إلى ما أنـزل الله في سورة الأنعام وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام - 68 ) .

وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: دخل في هذه الآية كلُّ مُحْدِث في الدين وكلُّ مبتدع إلى يوم القيامة، ( إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) أي: إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم، وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة، وقال الحسن: لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره، لقوله تعالى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ والأكثرون على الأول. وآية الأنعام مكية وهذه مدنية والمتأخر أوْلَى: ( إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا )