وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( 9 ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 ) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 11 )

( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا ) [ يعني: لو أرسلنا إليهم ملكا ] ( لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا ) يعني في صورة [ رجل ] آدمي, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة, وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي, وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين.

قوله عز وجل: ( وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) أي: خلطنا عليهم ما يخلطون وشبّهنا عليهم فلا يدرون أملك هو أم آدمي, وقيل معناه شَبّهوا على ضعفائهم فشبّه عليهم, وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وحرفوا الكلم عن مواضعه, فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم وقرأ الزهري ( وَلَلَبَسْنَا ) بالتشديد على التكرير والتأكيد.

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ( فَحَاقَ ) قال الربيع [ بن أنس ] فنـزل, وقال عطاء: حل, وقال الضحاك: أحاط, ( بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي: جزاء استهزائهم من العذاب والنقمة.

( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين, ( سِيرُوا فِي الأرْضِ ) معتبرين, يحتمل هذا: السير بالعقول والفكر, ويحتمل السير بالأقدام, ( ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أي: آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك, فحذّر كفار مكة عذاب الأمم الخالية.

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 12 ) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 13 )

قوله عز وجل: ( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فإن أجابوك وإلا فـ ( قُلْ ) أنت, ( لِلَّهِ ) أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة, ( كَتَبَ ) أي: قضى, ( عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) هذا استعطاف منه تعالى للمؤمنين عنه إلى الإقبال عليه وإخباره بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة, ويقبل الإنابة والتوبة.

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي » .

وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: « إن رحمتي [ سبقت ] غضبي » .

أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام, فبها يتعاطفون, وبها يتراحمون, وبها تتعاطف الوحوش على أولادها, وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها, تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته, فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: « أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه, فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها » .

قوله عز وجل: ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد مجازه: والله ليجمعنكم, ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أي: في يوم القيامة, وقيل: معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة, ( لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا ) غبنوا, ( أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )

( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي: استقر, قيل: أراد ما سكن وما تحرك, كقوله: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي: الحر والبرد, وقيل: إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر, قال محمد بن جرير: كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار, والمراد منه جميع ما في الأرض. وقيل معناه: ما يمر عليه الليل والنهار, ( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لأصواتهم, ( الْعَلِيمُ ) بأسرارهم.

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 14 )

قوله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ) ؟ وهذا حين دعا إلى دين آبائه, فقال تعالى: قل يا محمد أغير الله أتخذ وليا, [ ربا ومعبودا وناصرا ومعينا ] ؟ ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: خالقهما ومبدعهما ومبتديهما, ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) أي: وهو يَرْزق ولا يُرْزَق كما قال: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) يعني: من هذه الأمة, والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله, وقيل: أسلم أخلص, ( وَلا تَكُونَنَّ ) يعني: وقيل لي ولا تكونن, ( مِنَ الْمُشْرِكِينَ )

قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 ) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 16 ) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 )

( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ) [ فعبدت غيره ] ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يعني: عذاب يوم القيامة.

( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ) يعني: من يصرف العذاب عنه, قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب « يصرف » بفتح الياء وكسر الراء, أي: من يصرف الله عنه العذاب, لقوله: « فقد رحمه » وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء, ( يَوْمَئِذٍ ) يعني: يوم القيامة, ( فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) أي: النجاة البينة.

قوله عز وجل: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) بشدة وبلية, ( فَلا كَاشِفَ لَهُ ) لا رافع, ( إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ) عافية ونعمة, ( فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) من الخير والضر.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الله السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد الله بن ميمون القداح أنا شهاب بن خراش, [ هو ابن عبد الله ] عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة, أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر, ثم أردفني خلفه, ثم سار بي مليا ثم التفت إليّ فقال: يا غلام, فقلت: لبيك يا رسول الله, قال: « احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة, وإذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, وقد مضى القلم بما هو كائن, فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله تعالى لك لم يقدروا عليه, ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله تعالى عليك, ما قدروا عليه, فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين, فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر, وأن مع الكرب الفرج, وأن مع العسر يسرا » .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 18 )

( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) القاهر الغالب, وفي القهر زيادة معنى على القدرة, وهي منع غيره عن بلوغ المراد, وقيل: هو المنفرد بالتدبير الذي يجبر الخلق على مراده, فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل. ( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) في أمره, ( الْخَبِيرُ ) بأعمال عباده.