قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 19 ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 20 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 21 )

قوله عز وجل: ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ) ؟ الآية, قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك, ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر, فأنـزل الله تعالى: ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ ) أعظم, ( شَهَادَةً ) ؟ فإن أجابوك, وإلا ( قُلِ اللَّهُ ) هو ( شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) على ما أقول, ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل, ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ ) لأخوفكم به يا أهل مكة, ( وَمَنْ بَلَغَ ) يعني: ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة.

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن بشر النقاش أنا أبو شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلي أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة [ السلولي ] عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بلغوا عني ولو آية, وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ معقده من النار » .

أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها. فرب حامل فقه غير فقيه, ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله, والنصيحة للمسلمين, ولزوم جماعتهم, فإن دعوتهم تحيط من ورائهم » .

قال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له, وقال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه, أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ؟ ولم يقل أخر لأن الجمع يلحقه التأنيث, كقوله عز وجل: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف, 180 ) , وقال: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى . ( طه, 51 ) ( قُلْ ) يا محمد إن شهدتم أنتم, فـ ( لا أَشْهَدُ ) , أنا أن معه إلها, ( قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )

قوله عز وجل: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) , يعني: التوراة والإنجيل, ( يَعْرِفُونَهُ ) , يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته, ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) , من بين الصبيان. ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) , غبنوا أنفسهم ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) , وذلك أن الله جعل لكل آدمي منـزلا في الجنة ومنـزلا في النار, وإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة, ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار, وذلك الخسران.

قوله عز وجل: ( وَمَنْ أَظْلَمُ ) , أكفر, ( مِمَّنِ افْتَرَى ) , اختلق, ( عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) , فأشرك به غيره, ( أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) , يعني: القرآن, ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) , الكافرون.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 22 ) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( 23 ) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 )

( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ) , أي: العابدين والمعبودين, يعني: يوم القيامة, قرأ يعقوب « يحشرهم » هاهنا, وفي سبأ بالياء, ووافق حفص في سبأ, وقرأ الآخرون بالنون, ( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) , أنها تشفع لكم عند ربكم.

( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) , قرأ حمزة والكسائي ويعقوب « يكن » بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان, فجاز تذكيره, وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة, وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم « فتنتهم » بالرفع جعلوه اسم كان, وقرأ الآخرون بالنصب, فجعلوا الاسم قوله « أن قالوا » وفتنتهم الخبر, ومعنى قوله « فتنتهم » أي: قولهم وجوابهم, وقال ابن عباس وقتادة: معذرتهم والفتنة التجربة, فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة.

قال الزجاج في قوله: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتتن بمحبوب ثم يصيبه فيه [ محنة ] فيتبرأ من محبوبه, فيقال: لم تكن فتنت إلا هذا, كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها, يقول الله عز وجل: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) في محبتهم الأصنام, ( إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) , قرأ حمزة والكسائي « ربنا » بالنصب على نداء المضاف, وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله, وقيل: إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد, فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين, فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر.

فقال عز وجل: ( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) , باعتذارهم بالباطل وتبريهم عن الشرك, ( وَضَلَّ عَنْهُمْ ) زال وذهب عنهم ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) من الأصنام, وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها, فبطل كله في ذلك اليوم.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 25 ) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 26 )

قوله عز وجل: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) الآية, قال الكلبي: اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر, يستمعون القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين, مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية, وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها . فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا, فقال أبو جهل: كلا لا نقر بشيء من هذا, وفي رواية: للموت أهون علينا من هذا, فأنـزل الله عز وجل: « ومنهم من يستمع إليك » وإلى كلامك, ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) , أغطية, جمع كنان, كالأعنة جمع عنان, ( أَنْ يَفْقَهُوهُ ) , أن يعلموه, قيل: معناه أن لا يفقهوه, وقيل: كراهة أن يفقهوه, ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ) , صمما وثقلا هذا دليل على أن الله تعالى يقلّب القلوب فيشرح بعضها للهدى, ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن, ( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ ) , من المعجزات والدلالات, ( لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) , يعني: أحاديثهم وأقاصيصهم, والأساطير جمع: أسطورة, وإسطارة, وقيل: هي الترهات والأباطيل, وأصلها من سطرت, أي: كتبت.

( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ) أي: ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ( وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) , أي: يتباعدون عنه بأنفسهم, نـزلت في كفار مكة, قاله محمد بن الحنفية والسدي والضحاك, وقال قتادة: ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه.

وقال ابن عباس ومقاتل نـزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به, أي: يبعد, حتى رُوي أنه اجتمع إليه رءوس المشركين وقالوا: خذ شابا من أصبحنا وجها, وادفع إلينا محمدا, فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم؟ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان, فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك, ولكن أذب عنك ما حييت. وقال فيه أبياتا:

واللـه لــن يصلـوا إليـك بجمعهـم حـتى أوسـد فــي التـراب دفينـا

فـاصدع بـأمرك مـا عليك غضـاضة وابشـر بـذاك وقـر بذاك منك عيونا

ودعـوتنـي وعـرفـت أنك ناصحـي ولقــد صــدقت وكـنت ثم أمينـا

وعـرضــت دينـا قـد علمت بأنـه مــن خـيـر أديـان البريـة دينـا

لــولا الملامــة أو حــذار سبـة لوجـدتنـي سـمحـا بــذاك مبينـا

( وَإِنْ يُهْلِكُونَ ) , أي: ما يهلكون, ( إِلا أَنْفُسَهُمْ ) أي: لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم, وأوزار الذين يصدونهم عليهم, ( وَمَا يَشْعُرُونَ ) . .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 27 )

قوله عز وجل: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ) يعني: في النار, كقوله تعالى: عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: في ملك سليمان, وقيل: عرضوا على النار, وجواب « لو » محذوف معناه: لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا, ( فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ) يعني: إلى الدنيا, ( وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قراءة العامة كلها بالرفع على معنى: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب, ونكون من المؤمنين, وقرأ حمزة وحفص ويعقوب « ولا نكذب ونكون » بنصب الباء والنون على جواب التمني, أي: ليت ردنا وقع, وأن لا نكذب ونكون, والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء, وقرأ ابن عامر « نكذب » بالرفع و « نكون » بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين, وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا.