إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( 36 ) وَقَالُوا لَوْلا نُـزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَـزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 37 ) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( 38 )

( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) يعني: المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه, ( وَالْمَوْتَى ) يعني الكفار, ( يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) فيجزيهم بأعمالهم.

قوله عز وجل: ( وَقَالُوا ) يعني: رؤساء قريش, ( لَوْلا ) هلا ( نُـزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَـزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ما عليهم في إنـزالها.

قوله عز وجل: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ) قيد الطيران بالجناح تأكيدا كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي, ( إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ) قال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة, فالطير أمة, والدواب أمة, والسباع أمة, تعرف بأسمائها مثل بني آدم, يعرفون بأسمائهم, يقال: الإنس والناس.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها, فاقتلوا منها كل أسود بهيم ) .

وقيل: أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض, وقيل: أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث, وقال عطاء: أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة, قال ابن قتيبة: أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك.

( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ ) أي: في اللوح المحفوظ, ( مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) قال ابن عباس والضحاك: حشرها موتها, وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير, وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء, ثم يقول: كوني ترابا فحينئذ يتمنى الكافر ويقول: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء » .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 39 ) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 40 ) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( 41 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( 42 ) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 43 )

قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ ) لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به, ( فِي الظُّلُمَاتِ ) في ضلالات الكفر, ( مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهو الإسلام.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ) هل رأيتم؟ والكاف فيه للتأكيد, وقال الفراء: العرب تقول أرأيتك, وهم يريدون أخبرنا, كما يقول: أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل؟ أي: أخبرني, وقرأ أهل المدينة « أرأيتكم, وأرأيتم, وأرأيت » بتليين الهمزة الثانية, والكسائي بحذفها, قال ابن عباس: قل يا محمد لهؤلاء المشركين أرأيتكم, ( إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ) قبل الموت, ( أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ) يعني: القيامة, ( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ) في صرف العذاب عنكم, ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وأراد أن الكفار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ( لقمان: 32 ) .

ثم قال: ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ) أي: تدعون الله ولا تدعون غيره, ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ) قيد الإجابة بالمشيئة [ والأمور كلها بمشيئته ] ( وَتَنْسَوْنَ ) وتتركون, ( مَا تُشْرِكُونَ )

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ) بالشدة والجوع, ( وَالضَّرَّاءِ ) المرض والزمانة, ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) أي يتوبون ويخضعون, والتضرع السؤال بالتذلل.

( فَلَوْلا ) فهلا ( إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ) عذابنا, ( تَضَرَّعُوا ) فآمنوا فكشف عنهم, أخبر الله عز وجل أنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا, فذلك قوله: ( وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من الكفر والمعاصي.

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( 44 )

( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) تركوا ما وعظوا وأمروا به, ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) قرأ أبو جعفر, « فتَّحنا » بالتشديد, في كل القرآن, وقرأ ابن عامر كذلك إذا كان عقبيه جمعاُوالباقون بالتخفيف وهذا فتح استدراج ومكر, أي: بدلنا مكان البلاء والشدة الرخاء والصحة, ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ) وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا, ( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ) فجأة آمن ما كانوا, وأعجب ما كانت الدنيا إليهم, ( فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) آيسون من كل خير, وقال أبو عبيدة: المبلس النادم الحزين, وأصل الإبلاس: الإطراق من الحزن والندم, وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته, فإنما ذلك استدراج ) , ثم تلا « فلما نسوا ما ذكروا به » الآية .