وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 119 )

ثم قال: ( وَمَا لَكُمْ ) يعني: أي شيء لكم, ( أَلا تَأْكُلُوا ) وما يمنعكم من أن تأكلوا ( مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) من الذبائح, ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) قرأ أهل المدينة ويعقوب وحفص « فصل » و « حرم » بالفتح فيهما أي فصل الله ما حرمه عليكم, لقوله ( اسْمَ اللَّهِ ) وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على غير تسمية الفاعل, لقوله ( ذُكِرَ ) وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر « فصل » بالفتح و « حرم » بالضم, وأراد بتفصيل المحرمات ما ذكر في قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ( المائدة, 3 ) , ( إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الاضطرار, ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ ) قرأ أهل الكوفة بضم الياء وكذلك قوله لِيُضِلُّوا في سورة يونس, لقوله تعالى: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ , وقيل: أراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر والسوائب, وقرأ الآخرون بالفتح لقوله: مَنْ يَضِلُّ ( بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) حين امتنعوا من أكل ما ذكر اسم الله عليه ودعوا إلى أكل الميتة ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) الذين يجاوزون الحلال إلى الحرام.

وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ( 120 ) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( 121 )

( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ ) يعني: الذنوب كلها لأنها لا تخلو من هذين الوجهين, قال قتادة: علانيته وسره, وقال مجاهد: ظاهر الإثم ما يعمله بالجوارح من الذنوب, وباطنه ما ينويه ويقصده بقلبه كالمصر على الذنب القاصد له.

وقال الكلبي: ظاهره الزنا وباطنه المخالة, وأكثر المفسرين على أن ظاهر الإثم الإعلان بالزنا, وهم أصحاب الرايات , وباطنه الاستسرار به, وذلك أن العرب كانوا يحبون الزنا فكان الشريف منهم يتشرف, فيسر به, وغير الشريف لا يبالي به فيظهره, فحرمهما الله عز وجل, وقال سعيد بن جبير: ظاهر الإثم نكاح المحارم وباطنه الزنا.

وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في [ الطواف ] والباطن الزنا, وروى حبان عن الكلبي: ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارا عراة, وباطنه طواف النساء بالليل عراة, ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ ) في الآخرة, ( بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) [ يكتسبون في الدنيا ] .

قوله عز وجل: ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها.

وقال عطاء: الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام.

واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها: فذهب قوم إلى تحريمها سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا, وهو قول ابن سيرين والشعبي, واحتجوا بظاهر هذه الآية.

وذهب قوم إلى تحليلها, يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك والشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.

وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامدا لا يحل, وإن تركها ناسيا يحل, حكى الخرقي من أصحاب أحمد: أن هذا مذهبه, وهو قول الثوري وأصحاب الرأي.

من أباحها قال: المراد من الآية الميتات أو ما ذبح على غير اسم الله بدليل أنه قال: ( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) والفسق في ذكر اسم غير الله كما قال في آخر السورة قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ إلى قوله أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ

واحتج من أباحها بما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا أبو خالد الأحمر قال سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قالوا: يا رسول الله إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتونا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: اذكروا أنتم اسم الله وكلوا « . »

ولو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل [ الذبح ] .

قوله تعالى: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) أراد أن الشياطين ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم, وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: الله قتلها, قالوا: أفتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال, وما قتله الكلب والصقر حلال, وما قتله الله حرام؟ فأنـزل الله هذه الآية, ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ) في أكل الميتة, ( إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) قال الزجاج: وفيه دليل على أن من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم ما أحل الله فهو مشرك.

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 122 )

قوله عز وجل: ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) قرأ نافع « ميِّتا » و لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ( الحجرات, 12 ) و الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ( سورة يس, 33 ) بالتشديد فيهن, والآخرون بالتخفيف ( فَأَحْيَيْنَاهُ ) أي: كان ضالا فهديناه, كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان, ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ) يستضيء به, ( يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) على قصد السبيل, قيل: النور هو الإسلام, لقوله تعالى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة, 257 ) , وقال قتادة: هو كتاب الله بينة من الله مع المؤمن, بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي, ( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) المثل صلة, أي: كمن هو في الظلمات, ( لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) يعني: من ظلمة الكفر.

قيل: نـزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما, ثم اختلفوا فيهما, قال ابن عباس: جعلنا له نورا, يريد حمزة بن عبد المطلب, كمن مثله في الظلمات يريد أبا جهل بن هشام, وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث, فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس, وحمزة لم يؤمن بعد, فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه, ويقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا, فقال حمزة: ومن أسفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, فأنـزل الله هذه الآية .

وقال الضحاك: نـزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل .

وقال عكرمة والكلبي: نـزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل .

( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من الكفر والمعصية, قال ابن عباس: يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ( 124 )

قوله عز وجل: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) أي: كما أن فساق مكة أكابرها, كذلك جعلنا فساق كل [ قرية ] أكابرها, أي: عظماءها, جمع أكبر, مثل أفضل وأفاضل, وأسود وأساود, وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم, كما قال في قصة نوح عليه السلام: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ( الشعراء, 111 ) , وجعل فساقهم أكابرهم, ( لِيَمْكُرُوا فِيهَا ) وذلك أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, يقولون لكل من يقدم: إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب. ( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ ) لأن وبال مكرهم يعود عليهم ( وَمَا يَشْعُرُونَ ) أنه كذلك.

قوله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) يعني: مثل ما أوتي رسل الله من النبوة, وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك, لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

وقال مقاتل: نـزلت في أبي جهل, وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يوحى إليه, والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه, فأنـزل الله عز وجل: ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ) حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: يعني أبا جهل, ( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.

ثم قال الله تعالى: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) قرأ ابن كثير وحفص رسالته على التوحيد, وقرأ الآخرون رسالاته بالجمع, يعني: الله أعلم بمن هو أحق بالرسالة. ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ ) ذل وهوان ( عِنْدَ اللَّهِ ) أي: من عند الله, ( وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) قيل: صغار في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة.