حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 105 ) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 106 ) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 107 )

فقال موسى: ( حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) أي: أنا خليق بأن لا أقول على الله إلا الحق, فتكون « على » بمعنى الباء كما يقال: رميت بالقوس ورميت على القوس, وجئت على حال حسنة وبحال حسنة, يدل عليه قراءة أبيّ والأعمش « حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق » وقال أبو عبيدة: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق, وقرأ نافع ( عَلَيَّ ) بتشديد الياء أي حق واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق. ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني العصا, ( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: أطلق عنهم وخلّهم يرجعون إلى الأرض المقدسة, وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما.

فقال فرعون مجيبا لموسى: ( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )

( فَأَلْقَى ) موسى ( عَصَاهُ ) من يده ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) والثعبان: الذكر العظيم من الحيات, فإن قيل: أليس قال في موضع: كَأَنَّهَا جَانٌّ ( النمل- 10 ) , والجان الحية الصغيرة؟ قيل: إنها كانت كالجان في الحركة والخفة, وهي في جثتها حية عظيمة.

قال ابن عباس والسدي: إنه لما ألقى العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل, وقامت له على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر, وتوجهت نحو فرعون لتأخذه, وروي أنها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون من سريره هاربا وأحدث.

قيل: أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة, وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل, فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال فرعون: هل معك آية أخرى؟ قال: نعم.

وَنَـزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( 108 ) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( 109 ) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( 110 ) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( 111 ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 112 )

( وَنَـزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) فأدخل يده في جيبه ثم نـزعها, وقيل: أخرجها من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس, وكان موسى آدم, ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت.

( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) يعنون أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل إليهم العصا حية والآدم أبيض, ويُري الشيء بخلاف ما هو به.

( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ ) يا معشر القبط, ( مِنْ أَرْضِكُمْ ) مصر, ( فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) أي: تشيرون إليه, هذا يقوله فرعون وإن لم يذكره, وقيل: هذا من قول الملأ لفرعون وخاصته.

( قَالُوا ) يعني الملأ ( أَرْجِهْ ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وابن عامر بالهمزة وضم الهاء, وقرأ الآخرون بلا همز, ثم نافع برواية ورش والكسائي يشبعان الهاء كسرا, ويسكنها عاصم وحمزة, ويختلسها أبو جعفر وقالون.

قال عطاء, معناه أخره. وقيل: احبسه, ( وَأَخَاهُ ) معناه أشاروا عليه بتأخير أمره وترك التعرض له بالقتل, ( وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) يعني الشرط والمدائن, وهي مدائن الصعيد من نواحي مصر, قالوا: أرسل إلى هذا المدائن رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة, وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد, فإن غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا علمنا أنه ساحر.

فذلك قوله: ( يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) قرأ حمزة والكسائي: « سحار » هاهنا وفي سورة يونس, ولم يختلفوا في الشعراء أنه « سحار » .

قيل: الساحر: الذي يَعْلمُ السحر ولا يُعَلِّم, والسحَّار: الذي يعلّم, وقيل: الساحر من يكون سحره في وقت دون وقت, والسحار من يديم السحر.

قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي: قال فرعون لما رأى من سلطان الله في العصا ما رأى: إنا لا نغالب إلا بمن هو أعلم منه, فاتخذ غلمانا من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرحاء يعلمونهم السحر, فعلموهم سحرا كثيرا, وواعد فرعون موسى موعدا فبعث إلى السحرة فجاءوا ومعلمهم معهم, فقال له: ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء, فإنه لا طاقة لهم به, ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أتى به.

واختلفوا في عددهم, فقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين, اثنان من القبط, وهما رأسا القوم, وسبعون من بني إسرائيل.

وقال الكلبي: كان الذين يعملونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوي, وكانوا سبعين غير رئيسهم.

وقال كعب: كانوا اثني عشر ألفا. وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألفا.

وقال عكرمة: كانوا سبعين ألفا. وقال محمد بن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا, وقال مقاتل: كان رئيس السحرة شمعون. وقال ابن جريج: رئيس السحرة يوحنا.

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( 113 ) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 114 ) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ( 115 ) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( 116 ) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( 117 )

( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ ) واجتمعوا, ( قَالُوا ) لفرعون ( إِنَّ لَنَا لأجْرًا ) أي جُعْلا ومالا ( إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ) قرأ أهل الحجاز وحفص: « أن لنا » على الخبر, وقرأ الباقون بالاستفهام, ولم يختلفوا في الشعراء أنه مستفهم.

( قَالَ ) فرعون ( نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) في المنـزلة الرفيعة عندي مع الأجر, قال الكلبي: يعني أول من يدخل وآخر من يخرج.

( قَالُوا ) يعني السحرة ( يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ) عصاك ( وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) لعصيّنا وحبالنا.

( قَالَ ) موسى بل ( أَلْقُوا ) أنتم, ( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) أي: صرفوا أعينهم عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل, وهذا هو السحر, ( وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) أي: أرهبوهم وأفزعوهم, ( وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا. وفي القصة أن الأرض كانت ميلا في ميل صارت حيات وأفاعي في أعين الناس.

( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ) فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق. قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية. ويقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا, ( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ ) قرأ حفص: « تلقف » ساكنة اللام, خفيفة, حيث كان, وقرأ الآخرون: بفتح اللام وتشديد القاف, أي: تبتلع, ( مَا يَأْفِكُونَ ) يكذبون من التخاييل وقيل: يزوِّرون على الناس. فكانت تلتقم حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتعلت الكل وقصدت القوم الذين حضروا فوقع الزحام عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفا, ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت.

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 118 ) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ( 119 ) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( 120 )

( فَوَقَعَ الْحَقُّ ) قال الحسن ومجاهد: ظهر الحق, ( وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من السحرُ وذلك أن السحرة قالوا: لو كان ما يصنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله.

( فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ) ذليلين مقهورين .

( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ) لله تعالى. قال مقاتل: ألقاهم الله. وقيل: ألهمهم الله أن يسجدوا فسجدوا. وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا.