وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 164 ) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 165 )

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) اختلفوا في الذين قالوا هذا, قيل: كانوا من الفرقة الهالكة, وذلك أنهم لما قيل لهم انتهوا عن هذا العمل السيئ, قبل أن ينـزل بكم العذاب وأنا نعلم أن الله منـزل بكم بأسه إن لم تنتهوا أجابوا وقالوا: ( لم تعظون قوما الله مهلكهم ) , ( أَوْ ) علمتهم أنه ( مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا ) أي: قال الناهون ( مَعْذِرَةً ) أي: موعظتنا معذرة ( إِلَى رَبِّكُمْ ) قرأ حفص: « معذرة » بالنصب أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم. والأصح أنها من قول الفرقة الساكنة, قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم, قالوا معذرة إلى ربكم, ومعناه أن الأمر بالمعروف واجب علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله, ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي: يتقون الله ويتركوا المعصية, ولو كان الخطاب مع المعتدين لكان يقول ولعلكم تتقون.

( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) أي: تركوا ما وعظوا به, ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يعني الفرقة العاصية, ( بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) أي: شديد وجيع, من البأس وهو الشدة.

واختلف القراء فيه قرأ أهل المدينة وابن عامر « بئيس » بكسر الباء على وزن فعل, إلا أن ابن عامر يهمزه, وأبو جعفر ونافع لا يهمزان, وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل, وقرأ الآخرون على وزن فعيل مثل بعير وصغير.

( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أسمع الله يقول: « أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس » , فلا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة؟ قال عكرمة: قلت له: جعلني الله فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه, وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل: أهلكتهم, فأعجبه قولي, فرضي وأمر لي ببردين فكسانيهما.

وقال يمان بن رباب: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما والذين قالوا معذرة إلى ربكم, وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان. وهذا قول الحسن.

وقال ابن زيد: نجت الناهية, وهلكت الفرقتان, وهذه أشد آية في ترك النهي عن المنكر.

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 166 ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 167 )

قوله تعالى: ( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ) قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية ( قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) مبعدين, فمكثوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا.

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ) أي: آذن وأعلم ربك, يقال: تأذن وآذن, مثل: توعد وأوعد. وقال ابن عباس: تأذن ربك قال ربك. وقال مجاهد: أمر ربك. وقال عطاء: حكم ربك. ( لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أي: على اليهود, ( مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) بعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية, ( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 168 ) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 169 )

( وَقَطَّعْنَاهُمْ ) وفرقناهم ( فِي الأرْضِ أُمَمًا ) فرقا فرقهم الله فتشتت أمرهم ولم تجتمع لهم كلمة, ( مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ ) قال ابن عباس ومجاهد: يريد الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ( وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) يعني الذين بقوا على الكفر.

وقال الكلبي: منهم الصالحون هم الذين وراء نهر أوداف من وراء الصين ومنهم دون ذلك, يعني: من هاهنا من اليهود, ( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ ) بالخصب والعافية, ( وَالسَّيِّئَاتِ ) الجدب والشدة, ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا.

قوله عز وجل: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي: جاء من هؤلاء الذين وصفناهم ( خَلْفٌ ) والخلف: القرن الذي يجيء بعد قرن. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد, الواحد والجمع فيه سواء, والخلف بفتح اللام: البدل سواء كان ولدا أو غريبا.

وقال ابن الأعرابي: الخلّف بالفتح: الصالح, وبالجزم: الطالح.

وقال النضر بن شميل: الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد, وأما في القرن الصالح فبتحريك اللام لا غير.

وقال محمد بن جرير: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام, وفي الذم بتسكينها وقد يحرك في الذم ويسكن في المدح. ( وَرِثُوا الْكِتَابَ ) أي: انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التوراة, ( يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى ) فالعرض متاع الدنيا, والعَرْض, بسكون الراء, ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير. وأراد بالأدنى العالَم, وهو هذه الدار الفانية, فهو تذكير الدنيا, وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة فقرؤوها وضيّعوا العمل بما فيها, وخالفوا حكمها, يرتشون في حكم الله وتبديل كلماته, ( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ) ذنوبنا يتمنون على الله الأباطيل.

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا أبو طاهر, محمد بن أحمد بن الحارث, أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي, أنبأنا عبد الله بن محمود, أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, أنبأنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت, والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله » .

( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب, يقول إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما, ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه. وقال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم, فيقال له: ما لك ترتشي؟ فيقول: سيغفر لي, فيطعن عليه الآخرون, فإذا مات أو نـزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي أيضا. يقول: وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه.

( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) أي: أخذ عليهم العهد في التوراة أن لا يقولوا على الله الباطل, وهي تمني المغفرة مع الإصرار, وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار, ( وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ) قرأوا ما فيه, فهم ذاكرون لذلك, ولو عقلوه لعملوا للدار الآخرة, ودرس الكتاب: قراءته وتدبره مرة بعد أخرى, ( وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ( 170 )

( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ) قرأ أبو بكر عن عاصم: « يمسكون » بالتخفيف, وقراءة العامة بالتشديد, لأنه يقال: مسكت بالشيء, ولا يقال أمسكت بالشيء, إنما يقال: أمسكته, وقرأ أبي بن كعب: « والذين تمسكوا بالكتاب » , على الماضي وهو جيد لقوله تعالى: ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) إذ قَلَّ ما يعطف ماض على مستقبل إلا في المعنى, [ وأراد ] الذين يعملون بما في الكتاب, قال مجاهد: هم المؤمنون من أهل الكتاب, عبد الله بن سلام وأصحابه, تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى فلم يحرّفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة. وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )