وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 171 ) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( 172 )

قوله تعالى: ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ) أي: فلقنا الجبل, وقيل: رفعناه ( كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) قال عطاء: سقيفة, والظلة: كل ما أظلك, ( وَظَنُّوا ) علموا ( أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ) أي: وقلنا لهم خذوا, ( مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ) بجد واجتهاد, ( وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ) واعلموا به, ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة, فرفع الله على رءوسهم جبلا. قال الحسن: فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن يسقط عليه, ولذلك لا تجد يهوديا إلا ويكون سجوده على حاجبه الأيسر.

قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الآية.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي, أنا زاهر بن أحمد, أنا أبو إسحاق الهاشمي, أنا أبو مصعب, عن مالك, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عبد الحميد بن عبد الرحمن, عن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الآية. قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يُسأل عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] « إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه, فاستخرج منه ذرية, فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون, فقال رجل: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله للجنة بعمل أهل الجنة, حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة, فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار, حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار » وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر, وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا.

قال مقاتل وغيره من أهل التفسير: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون, ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر, فقال: يا آدم هذه ذريتك, ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى, فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي وهم أصحاب اليمين, وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي, وهم أصحاب الشمال, ثم أعادهم جميعا في صلبه, فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [ الأعراف- 102 ] .

وقال بعض أهل التفسير: إن أهل السعادة أقروا طوعا وقالوا: بلى, وأهل الشقاوة قالوه تقية وكرها, وذلك معنى قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [ آل عمران- 83 ] .

واختلفوا في موضع الميثاق؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ببطن نَعْمان - واد إلا جنب عرفة - وروي عنه أيضا: أنه بدهناء من أرض الهند وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه. وقال الكلبي: بين مكة والطائف, وقال السدي: أخرج الله آدم عليه السلام من الجنة فلم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فأخرج ذريته. وروي: أن الله أخرجهم جميعا وصوّرهم وجعل لهم عقولا يعلمون بها وألسنا ينطقون بها ثم كلمهم قُبُلا - يعني عيانا - وقال ألست بربكم؟ وقال الزجاج وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به, كما قال تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [ النمل- 18 ] .

وروي أن الله تعالى قال لهم جميعا: اعملوا أنه لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا, فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي, وإني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي, ومنـزل عليكم كتبا, فتكلموا جميعا, وقالوا: شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك, فأخذ بذلك مواثيقهم, ثم كتب آجالهم وأرزقاهم ومصائبهم, فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك, فقال: رب لولا سويت بينهم؟ قال: إني أحب أن أشكر, فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه فذلك قوله تعالى: « وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم » أي: من ظهور بني آدم ذريتهم, قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر: « ذرياتهم » بالجمع وكسر التاء, وقرأ الآخرون « ذريتهم » على التوحيد, ونصب التاء.

فإن قيل: ما معنى قوله « وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم » وإنما أخرجهم من ظهر آدم؟ قيل: إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في الترتيب, فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لِمَا علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره

قوله تعالى: ( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) أي: أشهد بعضهم على بعض: ( شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا ) قرأ أبو عمرو: « أن يقولوا » ويقولوا بالياء فيهما, وقرأ الآخرون بالتاء فيهما.

واختلفوا في قوله: « شهدنا » قال السدي: هو خبر من الله عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. وقال بعضهم: هو خبر عن قول بني آدم حين أشهد الله بعضهم على بعض, فقالوا بلى شهدنا. وقال الكلبي: ذلك من قول الملائكة, وفيه حذف تقديره: لما قالت الذرية: بلى قال الله للملائكة: اشهدوا, قالوا: شهدنا, قوله: « أن يقولوا » يعني: وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا, أي: لئلا يقولوا أو كراهية أن يقولوا, ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام: أخاطبكم: ألست بربكم لئلا تقولوا: ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) أي: عن هذا الميثاق والإقرار, فإن قيل: كيف تلزم الحجة على أحد لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا, فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة, وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( 173 ) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 174 ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( 175 )

قوله تعالى: ( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) يقول: إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون: إنما أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم, أي كنا أتباعا لهم فاقتدينا بهم, فتجعلوا هذا عذرا لأنفسكم وتقولوا: ( أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين, فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد.

( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ) أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد, ( وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) من الكفر إلى التوحيد.

قوله تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) الآية. اختلفوا فيه, قال ابن عباس كان من بني إسرائيل. وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل: هو من مدينة بلقا.

وكانت قصته - على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم - أن موسى لما قصد حرب الجبارين ونـزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم إلى بلعم - وكان عنده اسم الله الأعظم - فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير, وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل, وأنت رجل مجاب الدعوة, فاخرج فادع الله أن يردهم عنا, فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم, وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي, فراجعوه وألحوا عليه فقال: حتى أؤامر ربي, وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم, فقيل له في المنام لا تدع عليهم, فقال لقومه: إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها, ثم راجعوه فقال: حتى أؤامر, فآمر, فلم يوح إليه شيء, فقال: قد آمرت فلم يجز إلي شيء, فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى, فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسبان, فلما سار عليها غير كثير ربضت به, فنـزل عنها فضربها حتى إذا أذلقها قامت فركبها, فلم تسر به كثيرا حتى ربضت, ففعل بها مثل ذلك فقامت, فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت, فضربها حتى أذلقها, أذن الله لها بالكلام فكلمته حجة عليه, فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب بي؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينـزع, فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه, ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: يا بلعم أتدري ماذا تصنع إنما تدعو لهم علينا؟! فقال: هذا ما لا أملكه, هذا شيء قد غلب الله عليه, فاندلع لسانه فوقع على صدره, فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة, فسأمكر لكم وأحتال, جمِّلوا النساء وزيِّنوهن وأعطوهن السلع, ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه, ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها, فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم, ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين, اسمها كستى بنت صور, برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب, فقام إليها فأخذ بيدها حين [ أعجبه جمالها ] ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى, فقال: إني أظنك ستقول هذه حرام عليك؟ قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها, قال: فوالله لا أطيعك في هذا, ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني اسرائيل في الوقت, وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى, وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش, وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع, فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل, فأخبر الخبر, فأخذ حربته وكانت من حديد كلها, ثم دخل عليهما القبة, وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته, ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء, والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته, وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار, وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك, ورُفع الطاعون, فحُسِب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص, فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار, فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى, لاعتماده بالحربة على خاصرته, وأخذه إياها بذراعه, وإسناده إياها إلى لحيته, والبكر من كل أموالهم وأنفسهم, لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنـزل الله تعالى: « واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا » الآية.

وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: ادع الله على موسى, فقال: إنه من أهل ديني لا أدعو عليه, فنحت خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه, فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها, فقالت: لِمَ تضربني؟ إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك فقال: لتدعون عليه أو لأصلبنك, فدعا على موسى بالاسم الأعظم: أن لا يدخل المدينة, فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التية بدعائه, فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه, [ فدعا موسى عليه السلام ] أن ينـزع عنه الاسم الأعظم والإيمان, فنـزع الله عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء, فذلك قوله: « فانسلخ منها » .

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص, وسعيد بن المسيب, وزيد بن أسلم: نـزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي, وكانت قصته: أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول, فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به, وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة, وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر, فسأل عنهم فقيل: قتلهم محمد, فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه, فلما مات أمية أتت أخته فارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها فقالت: بينما هو راقد أتاه آتيان فكشفا سقف البيت, فنـزلا فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه, فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: وعى؟ قال أزكى؟ قال: أبى, قالت: فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي, فصرف عني فغشي عليه, فلما أفاق قال:

كــل عيش وإن تطــاول دهـــرا صـائــر مــرة إلـى أن يــزولا

ليتنـي كـنت قبـل مـا قــد بـدا لي فـي قـلال الجبـال أرعـى الوعـولا

إن يــوم الحســاب يــوم عظيـم شـاب فيـه الصغـيـر يومـا ثقيـلا

ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشديني من شعر أخيك, فأنشدته بعض قصائده, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « آمن شعره وكفر قلبه » , فأنـزل الله عز وجل ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) الآية .

وفي رواية عن ابن عباس: أنها نـزلت في البسوس, رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات, وكانت له امرأة له منها ولد, فقالت: اجعل لي منها دعوة, فقال لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل, فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل, فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه, فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة, فذهبت فيها دعوتان, فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار, قد صارت أمنا كلبة نباحة, والناس يعيِّروننا بها, ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها, فدعا الله فعادت كما كانت, فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان الأولان أظهر .

وقال الحسن وابن كيسان: نـزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم.

وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عُرض عليه الهدى فأبى أن يقبله, فذلك قوله « واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا » . قال ابن عباس والسدي: اسم الله الأعظم. قال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه. وقال ابن عباس في رواية أخرى: أوتي كتابا من كتب الله فانسلخ, أي: خرج منها كما تنسلخ, أي: خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها. ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) أي: لحقه وأدركه, ( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ )

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 176 )

( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي: رفعنا درجته ومنـزلته بتلك الآيات. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لرفعناه بعلمه بها. وقال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات. ( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ) أي: سكن إلى الدنيا ومال إليها. قال الزجاج: خلد وأخلد واحد. وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام, يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به, والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا, لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض, وسائر متاعها مستخرج من الأرض. ( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) انقاد لما دعاه إليه الهوى, قال ابن زيد: كان هواه مع القوم. قال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه. وهذه أشد آية على العلماء, وذلك أن الله أخبر أنه آتاه [ آية ] من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة, فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها, ومَن الذي يَسْلَمُ من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله؟

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحارث, أنا محمد بن يعقوب الكسائي, أنا عبد الله بن محمود, أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, أنا عبد الله بن المبارك عن زكريا بن أبي زائدة, عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه » .

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) يقال: لهث الكلب يلهث لهثا: إذا أدلع لسانه. قال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به.

والمعنى: إن هذا الكافر إن زجرته لم ينـزجر, وإن تركته لم يهتد, فالحالتان عنده سواء, كحالتي الكلب: إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا, وإن ترك وربض كان لاهثا. قال القتيبي: كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب, فإنه يلهث في حال الكلال وفي حال الراحة وفي حال العطش, فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث, وإن تركته على حاله لهث, نظيره قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ [ الأعراف- 193 ] , ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال: ( ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) وقيل: هذا مثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله, فلما جاءهم نبي لا يشكّون في صدقه كذّبوه فلم يهتدوا تُركوا أو دُعوا.

سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 177 ) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 178 )

( سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا, وتقديره: ساء مثلا مثل القوم, فحذف مثل وأقيم القوم مقامه فرُفع, ( وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ )