وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 113 )

قوله ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ) نـزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود: فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود، ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بموسى والتوراة فأنـزل الله تعالى ( وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) [ وكلا الفريقين يقرءون الكتاب، قيل: معناه ليس في كتبهم هذا الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ] ومخالفتهم ما فيه على كونهم على الباطل ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) يعني: آباءهم الذين مضوا ( مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) قال مجاهد: يعني: عوام النصارى، وقال مقاتل: يعني مشركي العرب، كذلك قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنهم ليسوا على شيء من الدين.

وقال عطاء:أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام قالوا لنبيهم:إنه ليس على شيء ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يقضي بين المحق والمبطل ( فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) من الدين.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 114 )

قوله ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ ) الآية نـزلت في طيطوس بن اسبيسبانوس الرومي وأصحابه، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير، فكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقال قتادة والسدي: هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النصارى، طيطوس الرومي وأصحابه من أهل الروم ، قال السدي: من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا، وقال قتادة: حملهم بعض اليهود على معاونة بختنصر البابلي ( المجوسي ) فأنـزل الله تعالى ( وَمَنْ أَظْلَمُ ) أي أكفر وأعتى ( مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ) يعني بيت المقدس ومحاربيه . ( أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى ) عمل ( فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ ) وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يدخلها يعني بيت المقدس بعد عمارتها رومي إلا خائفأ لو علم به لقتل. وقال قتادة ومقاتل: لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكر لو قدر عليه لعوقب، قال السدي: أخيفوا بالجزية. وقيل: هذا خبر بمعنى الأمر، أي أجهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد ( منهم ) إلا خائفا من القتل والسبي أي ما ينبغي ( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) عذاب وهوان، قال قتادة: هو القتل للحربي والجزية للذمي، قال مقاتل ( والكلبي ) تفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينية، ورومية، وعمورية ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النار، وقال عطاء وعبد الرحمن بن زيد: نـزلت في مشركي مكة، وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية، وإذا منعوا من أن يعمره بذكر فقد سعوا في خرابه ( أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ ) يعني أهل مكة يقول أفتحها عليكم حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم، ففتحها عليهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: « ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك » فهذا خوفهم، وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم، ( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) الذل والهوان والقتل والسبي والنفي.

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 115 ) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 116 )

قوله عز وجل ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا وأنهم مخطئون في تحريهم فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنـزلت هذه الآية

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: نـزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به »

قال عكرمة: نـزلت في تحويل القبلة، قال أبو العالية: لما صرفت القبلة إلى الكعبة عيرت اليهود المؤمنين وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا، فأنـزل الله تعالى هذه الآية ، وقال مجاهد والحسن: لما نـزلت وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( 60- غافر ) قالوا: أين ندعوه فأنـزل الله عز وجل ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) ملكا وخلقا ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي: هناك ( رحمة ) الله، قال الكلبي: فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ( 88- القصص ) أي إلا هو، وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حبان: فثم قبلة الله، والوجه والوجهة والجهة القبلة، وقيل: رضا الله تعالى.

( إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ ) أي غني يعطي من السعة، قال الفراء: الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء، قال الكلبي: واسع المغفرة عَلِيمٌ بنياتهم حيثما صلوا ودعوا.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) قرأ ابن عامر قالوا اتخذ الله بغير واو، وقرأ الآخرون بالواو [ وقالوا اتخذ الله ولدا ] نـزلت في يهود المدينة حيث قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وفي نصارى نجران حيث قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله ( سُبْحَانَهُ ) نـزه وعظم نفسه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن عبد الرحمن بن أبي حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا » .

قوله تعالى ( بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) عبيدا وملكا ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) قال مجاهد وعطاء والسدي: مطيعون وقال عكرمة ومقاتل: مقرون له بالعبودية، وقال ابن كيسان: قائمون بالشهادة، وأصل القنوت القيام قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أفضل الصلاة طول القنوت » ، واختلفوا في حكم الآية فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص، وقال مقاتل: هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس، وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق لأن « كل » تقتضي الإحاطة بالشيء بحيث لا يشذ منه شيء ، ثم سلكوا في الكفار طريقين: فقال مجاهد: يسجد ظلالهم لله على كره منهم قال الله تعالى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( 15- الرعد ) وقال السدي: هذا يوم القيامة دليله [ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ( 111- طه ) وقيل ( قانتون ) مذللون مسخرون لما خلقوا له ] .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 117 ) وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 118 ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ( 119 )

قوله تعالى: ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي مبدعها ومنشئها من غير مثال سبق ( وَإِذَا قَضَى أَمْرًا ) أي قدره، وقيل: أحكمه وقدره [ وأتقنه، وأصل القضاء: الفراغ، ومنه قيل لمن مات: قضي عليه لفراغه من الدنيا، ومنه قضاء الله وقدره ] لأنه فرغ منه تقديرا وتدبيرا.

( فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) قرأ ابن عامر كن فيكون بنصب النون في جميع المواضع إلا في آل عمران كُنْ فَيَكُونُ ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وفي سورة الأنعام كُنْ فَيَكُونُ ، قَوْلُهُ الْحَقُّ وإنما نصبها لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبا [ وافقه الكسائي في النحل ويس ] ، وقرأ الآخرون بالرفع على معنى فهو يكون، فإن قيل كيف قال ( فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) والمعدوم لا يخاطب، قال ابن الأنباري: معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب، وقيل: هو وإن كان معدوما ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب.

قوله تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: اليهود، وقال مجاهد: النصارى، وقال قتادة: مشركو العرب ( لَوْلا ) هلا ( يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ) عيانا بأنك رسوله وكل ما في القرآن ( لَوْلا ) فهو بمعنى هلا إلا واحدا، وهو قوله فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ( 143- الصافات ) معناه فلو لم يكن ( أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) دلالة وعلامة على صدقك في ادعائك النبوة.

قال الله تعالى: ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي كفار الأمم الخالية ( مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي أشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة وطلب المحال ( قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ) أي بالصدق كقوله وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ( 53- يونس ) أي صدق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بالقرآن دليله بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ( 5- ق ) وقال ابن كيسان: بالإسلام وشرائعه، دليله قوله عز وجل: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ( 81- الإسراء ) وقال مقاتل: معناه لم نرسلك عبثا، إنما أرسلناك بالحق كما قال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ ( 85- الحجر ) .

قوله عز وجل ( بَشِيرًا ) أي مبشرا لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم ( وَنَذِيرًا ) أي منذرا مخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم، قرأ نافع ويعقوب ( وَلا تُسْأَلُ ) على النهي قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: « ليت شعري ما فعل أبواي » فنـزلت هذه الآية ، وقيل: هو على معنى قولهم ولا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحسب وليس على النهي، وقرأ الآخرون « ولا تسأل » بالرفع على النفي بمعنى ولست بمسئول عنهم كما قال الله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( 40- الرعد ) ، ( عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) والجحيم معظم النار.