كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 69 ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 70 ) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 71 ) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 72 ) .

( كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول من أمر الله, فلعنتم كما لعنوا ( كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ) بطشا ومنعة, ( وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ ) فتمتعوا أو انتفعوا بخلاقهم؛ بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا به عوضا عن الآخرة, ( فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ ) أيها الكفار والمنافقون, ( كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ) وسلكتم سبيلهم, ( وَخُضْتُم ) في الباطل والكذب على الله تعالى, وتكذيب رسله, وبالاستهزاء بالمؤمنين, ( كَالَّذِي خَاضُوا ) أي: كما خاضوا. وقيل: كالذي يعني كالذين خاضوا, وذلك أن « الذي » اسم ناقص, مثل « ما » و « من » يعبر به عن الواحد والجميع, نظيره قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ثم قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ( البقرة - 17 ) .

( أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) أي: كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن عبد العزيز, حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم » , قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: « فمن » ؟ وفي رواية أبي هريرة: « فهلِ الناسُ إلا هُمْ » , وقال ابن مسعود رضي الله عنه: « أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سَمْتًا وَهَدْيًا تتبعون عملهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ غير أني لا أدري أتعبدون العِجْلَ أم لا؟ » .

قوله تعالى: ( أَلَمْ يَأْتِهِمْ ) يعني المنافقين, ( نَبَأُ ) خبر, ( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) حين عصوا رُسلنا, وخالفوا أمرنا كيف عذبناهم وأهلكناهم. ثم ذكرهم, فقال: ( قَوْمِ نُوحٍ ) أهلكوا بالطوفان, ( وَعَاد ) أهلكوا بالريح ( وَثَمُود ) بالرجفة, ( وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ) بسلب النعمة وهلاك نمرود, ( وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ ) يعني قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة, ( وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ) المنقلبات التي جعلنا عاليها سافلها وهم قوم لوط, ( أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) فكذَّبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفار, فاحذروا تعجيل النقمة, ( فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة. ( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) بالإيمان والطاعة والخير, ( وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) عن الشرك والمعصية وما لا يُعرف في الشرع, ( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) المفروضة, ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ) منازل طيبة, ( فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) أي: بساتين خلد وإقامة, يقال: عدن بالمكان إذا أقام به.

قال ابن مسعود: هي بُطْنَان الجنة, أي: وسطها.

قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصرا يقال له: « عدن » حوله البروج والمروج, له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.

وقال الحسن: قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل.

وقال عطاء بن السائب: « عدن » نهر في الجنة [ جنانه ] على حافتيه.

وقال مقاتل والكلبي: « عدن » أعلى درجة في الجنة, وفيها عين التسنيم, والجنان حولها, محدقة بها, وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينـزلها أهلها: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون, ومن شاء الله, وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب, فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر الأبيض.

( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) أي: رضا الله عنهم أكبر من ذلك, ( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله عز وجل لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك, فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا » .

 

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 73 ) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 74 )

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ ) بالسيف والقتل, ( وَالْمُنَافِقِينَ ) واختلفوا في صفة جهاد المنافقين, قال ابن مسعود: بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه, وقال لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر . وقال ابن عباس: باللسان وترك الرفق. وقال الضحاك: بتغليظ الكلام. وقال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم. ( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ ) في الآخرة, ( جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) قال عطاء: نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح.

قوله تعالى: ( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ) قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال: « إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان, فإذا جاء فلا تكلموه » , فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « علام تشتمني أنت وأصحابك » ؟ فانطلق الرجل, فجاء بأصحابه, فحلفوا بالله, ما قالوا, فأنـزل الله عز وجل هذه الآية .

وقال الكلبي: نـزلت في الجُلاس بن سويد, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك, فذكر المنافقين وسمَّاهم رجسا وعابهم, فقال جلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير. فسمعه عامر بن قيس, فقال: أجل إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير, فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس, فقال الجلاس: كذب علي يا رسول الله, وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر, فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله, ولقد كذب عليَّ عامر, ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه, ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم أنـزل على نبيك تصديق الصادق منا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين. فنـزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية, حتى بلغ: ( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ) فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع [ الله عز وجل ] قد عرض علي التوبة, صدق عامر بن قيس فيما قاله, لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه, فقبل رسول الله ذلك منه وحسنت توبته.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) أي: أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام. وقيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كلمة الكفر قول الجلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير. وقيل: كلمة الكفر قولهم لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ , ( المنافقون - 8 ) وستأتي تلك القصة [ في موضعها في سورة المنافقين ] ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) قال مجاهد: همَّ المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم: لنحن شر من الحمير, لكي لا يفشيه.

وقيل: همَّ اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم, فأرسل حذيفة لذلك.

وقال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا, فلم يصلوا إليه.

( وَمَا نَقَمُوا ) وما كرهوا وما أنكروا منهم, ( إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) وذلك أن مولى الجلاس قُتِل, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش, فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم.

( فَإِنْ يَتُوبُوا ) من نفاقهم وكفرهم ( يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا ) يعرضوا عن الإيمان, ( يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا ) بالخزي, ( وَالآخِرَةِ ) أي: وفي الآخرة بالنار, ( وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 75 )

قوله تعالى: ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ) الآية. أخبرنا أبو سعيد الشريحي, حدثنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني, حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي, حدثنا محمد بن نصر, حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر, حدثنا مروان بن محمد بن شعيب حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه » , ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت » ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اللهم ارزق ثعلبة مالا » .

قال: فاتخذ غنما فَنَمَتْ كما ينمو الدود, فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها, فنـزل واديا من أوديتها وهي تنمو كالدود, فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر, ويصلي في غنمه سائر الصلوات, ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة, فصار لا يشهد إلا الجمعة, ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة. فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار, فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ قالوا: يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة » . فأنـزل الله آية الصدقات, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة, كيف يأخذان؟ وقال لهما: « مرا بثعلبة بن حاطب, و [ بفلان ] , رجلٍ من بني سليم فخذا صدقاتهما, فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية, انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي, فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا: ما هذه عليك. قال: خذاه فإن نفسي بذلك طيبة, فمرا على الناس فأخذا الصدقات, ثم رجعا إلى ثعلبة, فقال: أروني كتابكما فقرأه, ثم قال: ما هذه إلا أخت الجزية, اذهبا حتى أرى رأيي. »

قال فأقبلا فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال: يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة, ثم دعا للسلمي بخير, فأخبراه بالذي صنع ثعلبة, فأنـزل الله تعالى فيه: ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ) الآية, إلى قوله: وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة لقد أنـزل الله فيك كذا وكذا, فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة, فقال: إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك, فجعل يحثو التراب على رأسه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني, فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته, رجع إلى منـزله. وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتى أبا بكر فقال: اقبل صدقتي, فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا أقبلها؟ فقُبِض أبو بكر ولم يقبلها. فلما وَلِيَ عمر أتاه فقال: اقبل صدقتي, فقال: لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر, أنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها فلما وَلِيَ عثمان أتاه فلم يقبلها منه, وهلك ثعلبة في خلافة عثمان .

قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه, وتصدقت منه, ووصلت الرحم, وأحسنت إلى القرابة, فمات ابن عم له [ فورَّثه ] مالا فلم يف بما قال, فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

وقال الحسن ومجاهد: نـزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير, وهما من بني عمرو بن عوف, خرجا على ملأ قعودٍ وقالا والله لئن رزقنا الله [ مالا ] لنصدقن, فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به فقوله عز وجل ( وَمِنْهُم ) يعني: المنافقين ( مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ) ولنؤدين حقّ الله منه. ( وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) نعمل بعمل أهل الصلاح فيه؛ من صلة الرحم والنفقة في الخير.

فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 76 ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 77 ) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 78 ) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 79 ) .

« فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون » . ( فَأَعْقَبَهُم ) فأخلفهم, ( نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ ) أي: صيَّر عاقبة أمرهم النفاق, يقال: أعقب فلانا ندامة إذا صيَّر عاقبة أمره ذلك. وقيل: عاقبهم بنفاق قلوبهم. يقال: عاقبتُه وأعقبته بمعنى واحد. ( إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) يريد حرمهم التوبة إلى يوم القيامة, ( بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي, حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني, حدثنا عبد الله بن عمر الجوهري, حدَّثنا أحمد بن علي الكشميهني, حدثنا علي بن حجر, حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرنا أبو سهيل نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب, وإذا وعَدَ أخلف, وإذا ائتُمِنَ خان » .

قوله عز وجل: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ) يعني: ما أضمروا في قلوبهم وما تناجوا به بينهم, ( وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) .

قوله عز وجل: ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ) الآية.

قال أهل التفسير: حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة, فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم, وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله, وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بارك الله لك فيما أعطيتَ وفيما أمسكتَ » , فبارك الله في ماله حتى إنه خلَّف امرأتين يوم مات فبلغ ثُمُنُ ماله لهما مائة وستين ألف درهم. وتصدَّق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وَسْقٍ من تمر. وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحباب بصاع من تمر, وقال: يا رسول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نِلْتُ صاعين من تمر فأمسكتُ أحدهما لأهلي وأتيتُك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقة, فلمزهم المنافقون, فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياءً, وإن الله ورسوله لغنيَّان عن صاع أبي عقيل, ولكنه أراد أن يُذكِّر بنفسه ليعطى من الصدقة, فأنـزل الله عز وجل:

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ) أي: يعيبون ( الْمُطَّوِّعِين ) المتبرعين ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ) يعني: عبد الرحمن بن عوف وعاصمًا. ( وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ ) أي: طاقتهم, يعني: أبا عقيل. والجهد: الطاقة, بالضم لغة قريش وأهل الحجاز. وقرأ الأعرج بالفتح. قال القتيـبي: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ) يستهزئون منهم, ( سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ) أي: جازاهم الله على السخرية, ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .