وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ( 21 ) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 22 ) .

قوله عز وجل: ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ ) يعني: الكفار، ( رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ ) أي: راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء. وقيل: القطر بعد القحط، ( مَسَّتْهُم ) أي: أصابتهم، ( إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) قال مجاهد: تكذيب واستهزاء. وقال مقاتل بن حيان: لا يقولون: هذا من رزق الله، إنما يقولون: سُقِينَا بِنَوْءِ كذا، وهو قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تكذبون ( الواقعة - 82 ) .

( قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ) أعجل عقوبة وأشدُّ أخذًا وأقدر على الجزاء، يريد عذابه في إهلاككم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق، ( إِنَّ رُسُلَنَا ) حفظتنا، ( يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) وقرأ يعقوب: « يمكرون » بالياء.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ) يجريكم ويحملكم، وقرأ أبو جعفر وابن عامر: « ينشركم » بالنون والشين من النشر وهو البسط والبث، « في البِرِّ » ، على ظهور الدواب، وفي ( البحر ) على الفلك، ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ) أي: في السفن، تكون واحدا وجمعا ( وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) يعني: جرت السفن بالناس، رجع من الخطاب إلى الخبر، ( بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) ليِّنة، ( وَفَرِحُوا بِهَا ) أي: بالريح، ( جَاءَتْهَا رِيحٌ ) أي: جاءت الفلك ريح، ( عَاصِف ) شديدة الهبوب، ولم يقل ريح عاصفة، لاختصاص الريح بالعصوف. وقيل: الريح تذكر وتؤنث. ( وَجَاءَهُم ) يعني: ركبانَ السفينة، ( الْمَوْج ) وهو حركة الماء واختلاطه، ( مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا ) أيقنوا ( أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) دَنَوا من الهلكة، أي: أحاط بهم الهلاك، ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي: أخلصوا في الدعاء لله ولم يدعوا أحدًا سوى الله. وقالوا ( لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا ) يا ربنا، ( مِنْ هَذِهِ ) الريح العاصف، ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لك بالإيمان والطاعة.

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 23 ) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 24 ) .

( فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ ) يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله عز وجل في الأرض، ( بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي: بالفساد. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) لأن وباله راجع عليها، ثم ابتدأ فقال: ( مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي: هذا متاع الحياة الدنيا، خبر ابتداء مضمر، كقوله: لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ ( الأحقاف - 35 ) ، أي: هذا بلاغ. وقيل: هو كلام متصل والبغي: ابتداء، ومتاع: خبره.

ومعناه: إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا، لا يصلح [ زادًا لمعاد ] لأنكم تستوجبون به غضب الله.

وقرأ حفص: « متاع » بالنصب، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

قوله عز وجل: ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) في فنائها وزوالها، ( كَمَاءٍ أَنْـزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ ) أي: بالمطر، ( نَبَاتُ الأرْضِ ) قال ابن عباس: نبت بالماء من كل لون، ( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ) من الحبوب والثمار، ( وَالأنْعَامُ ) من الحشيش، ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا ) حسنها وبهجتها، وظهر الزهر أخضر وأحمر وأصفر وأبيض ( وَازَّيَّنَت ) أي: تزينت، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود: « تزينت » . ( وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) على جذاذها وقطافها وحصادها، ردّ الكناية إلى الأرض. والمراد: النبات إذ كان مفهوما، وقيل: ردَّها إلى الغلَّة. وقيل: إلى الزينة. ( أَتَاهَا أَمْرُنَا ) قضاؤنا، بإهلاكها، ( لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ) أي: محصودة مقطوعة، ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) كأن لم تكن بالأمس، وأصله مِنْ غني بالمكان إذا أقام به. وقال قتادة: معناه إن المتشبِّث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون. ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 25 ) .

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) قال قتادة: السلام هو الله، وداره: الجنة. وقيل: السلام بمعنى السلامة، سُميت الجنة دار السلام لأنّ مَنْ دخلها سَلِمَ من الآفات. وقيل: المراد بالسلام التحية سُميت الجنة دار السلام، لأن أهلها يحيي بعضُهم بعضا بالسلام والملائكة تسلم عليهم. قال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ ( الرعد - 23 ) .

وروينا عن جابر قال: « جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم [ فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إنّ العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: ] إن لصاحبكم هذا مثلا. قال: فاضربوا له مثلا. فقال بعضهم: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي: دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي: لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، [ فقالوا أوّلُوها له يَفْقَهْهَا، قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: ] فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومَنْ عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فَرَّق بين الناس » .

( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فالصراط المستقيم هو الإسلام، عمَّ بالدعوة لإظهار الحجة، وخُصَّ بالهداية استغناءً عن الخلق.