قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ( 72 ) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ( 73 ) .

( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ) نداء ندبة وهي كلمة يقولها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه، أي: يا عجبا. والأصل يا ويلتاه. ( أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ) وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: تسعا وتسعين سنة. ( وَهَذَا بَعْلِي ) زوجي، سمي بذلك لأنه قيّم أمرها، ( شَيْخًا ) ؛ نصب على الحال، وكان سن إبراهيم مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: مائة سنة، وكان بين البشارة والولادة سنة، ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) .

( قَالُوا ) يعني الملائكة، ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) معناه: لا تعجبي من أمر الله، فإن الله عز وجل إذا أراد شيئا كان. ( رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) أي: بيت إبراهيم عليه السلام. قيل: هذا على معنى الدعاء من الملائكة، وقيل: معنى الخير والرحمة والنعمة.

والبركات جمع البركة، وهي ثبوت الخير. وفيه دليل على أن الأزواج من أهل البيت.

( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) فالحميد: المحمود في أفعاله، والمجيد: الكريم، وأصل المجد الرفعة.

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ( 74 ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ( 75 ) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( 76 ) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( 77 ) .

( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ) الخوف، ( وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى ) بإسحاق ويعقوب، ( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) فيه إضمار، أي: أخذ وظل يجادلنا.

قيل: معناه يكلمنا لأن إبراهيم عليه السلام لا يجادل ربه عز وجل إنما يسأله ويطلب إليه.

وقال عامة أهل التفسير: معناه يجادل رسلنا، وكانت مجادلته أنه قال للملائكة: أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا: لا قال: أو أربعون؟ قالوا: لا قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا حتى بلغ خمسة، [ قالوا: لا ] ، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا قال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجيه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) قال ابن جريج: وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم.

( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) أي: أعرض عن هذا المقال ودع عنك الجدال، ( إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) أي: عذاب ربك [ وحكم ربك ] ، ( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ ) نازل بهم، ( عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) أي: غير مصروف عنهم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا ) يعني: هؤلاء الملائكة، ( لُوطًا ) على صورة غلمان مرد حسان الوجوه، ( سِيءَ بِهِمْ ) أي: حزن لوط بمجيئهم، يقال: سؤته فسيء، كما يقال: سررته فسر. ( وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ) أي: قلبا. يقال: ضاق ذرع فلان بكذا: إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه، وذلك أن لوطا عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشة، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم.

( وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) أي: شديد كأنه عصب به الشر والبلاء، أي: شد‍ّ.

قال قتادة والسدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه السلام نحو قرية لوط فأتوا لوطا نصف النهار، وهو في أرض له يعمل فيها.

وقيل: إنه كان يحتطب. وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربع شهادات، فاستضافوه فانطلق بهم، فلما مشى ساعة قال لهم: ما بلغكم أمر أهل هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا. يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منـزله.

وروي: أنه حمل الحطب وتبعته الملائكة فمرّ على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم، فقال لوط: إنَّ قومي شر خلق الله، ثم مرّ على قوم آخرين، فغمزوا، فقال مثله، ثم مرّ بقوم آخرين فقال مثله، فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة: اشهدوا، حتى أتى منـزله.

ورُوي: أنّ الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط .

وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ( 78 ) .

( وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ) قال ابن عباس [ وقتادة ] : يسرعون إليه. وقال مجاهد: يهرولون، وقال الحسن: مشي بين مشيتين. قال شمر بن عطية: بين الهرولة [ والجمز ] .

( وَمِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل مجيئهم إلى لوط، ( كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) كانوا يأتون الرجال في أدبارهم. ( قَالَ ) لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان، ( يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) يعني: بالتزويج، وفي أضيافه ببناته، وكان في ذلك الوقت، تزويج المسلمة من الكافر جائزًا كما زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب، وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين .

وقال الحسين بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير: قوله: ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي ) أراد: نساءهم، وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته. وفي قراءة أبي بن كعب: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب - 6 ) وهو أب لهم.

وقيل: ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على التحقيق، ولم يرضوا هذا.

( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي ) [ أي: خافوا الله ولا تخزونِ في ضيفي ] ، أي: لا تسوءوني ولا تفضحوني في أضيافي. ( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) صالح سديد. قال عكرمة: رجل يقول لا إله إلا الله. وقال ابن إسحاق: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( 79 ) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( 80 ) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ( 81 ) .

( قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ) يا لوط، ( مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ) أي: لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح. وقيل: معناه مَا لنَا فيهن من حاجة وشهوة. ( وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) من إتيان الرجال.

( قَالَ ) لهم لوط عند ذلك: ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) أراد قوة البدن، أو القوة بالأتباع، ( أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أي: أنضم إلى عشيرة مانعة. وجواب « لو » مضمر أي لقاتلناكم وحُلْنا بينكم وبينهم . قال أبو هريرة: ما بعث الله بعده نبيا إلا في منعة من عشيرته.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أنبأنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب بن أبي حمزة، أنبأنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يغفر الله للوط إنْ كانَ لَيأوي إلى رُكنٍ شديد » .

قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأتِ الملائكة ما يلقى لوط بسببهم:

( قَالُوا يَا لُوطُ ) إنَّ ركنك لشديد، ( إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه عز وجل في عقوبتهم، فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم، وهو برَّاق الثنايا، أجلى الجبين، ورأسه حُبُك مثل المرجان، كأنه الثلج بياضا وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فانصرفوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض سحرونا، وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى تصبح فسترى ما تلقى منا غدا. يُوعِدونه، فقال لوط للملائكة: متى موعد إهلاكهم؟ فقالوا: الصبح، فقال: أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن، فقالوا ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ثم قالوا، ( فَأَسْرِ ) يا لوط، ( بِأَهْلِكَ ) .

قرأ أهل الحجاز « فَاسْرِ وأنِ اسرِ » بوصل الألف [ حيث وقع في القرآن ] من سرى يَسْري، وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يُسري، ومعناهما واحد وهو المسير بالليل.

( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) قال ابن عباس: بطائفة من الليل. وقال الضحاك: ببقية. وقال قتادة: بعد مضي أوله وقيل: إنه السحر الأول.

( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: « امرأتُك » برفع التاء على الاستثناء من الالتفات، أي: لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتُك فإنها تلتفت فتهلك، وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من تبعه، ممن أسرى بهم أن يلتفت، سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت، وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها.

وقرأ الآخرون: بنصب التاء على الاستثناء من الإسراء، أي: فأسر بأهلك إلا امرأتك فلا تَسْرِ بها وخَلِّفها مع قومها، فإن هواها إليهم، وتصديقه قراءة ابن مسعود « فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد » .

( إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ) من العذاب، ( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ) أي: موعد هلاكهم وقت الصبح، فقال لوط: أريد أسرع من ذلك، فقالوا ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) .