وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ( 118 ) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 119 ) .

قوله عز وجل: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ ) كلهم ( أُمَّةً وَاحِدَةً ) على دين واحد. ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) على أديان شتى من بين يهودي ونصراني، ومجوسي، ومشرك.

( إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) معناه: لكن من رحم ربك فهداهم إلى الحق، فهم لا يختلفون، ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال الحسن وعطاء: وللاختلاف خلقهم. وقال أشهب: سألْتُ مالكًا عن هذه الآية، فقال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير.

وقال أبو عبيدة: الذي أختاره قول من قال: خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه.

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: وللرحمة خلقهم، يعني الذين رحمهم.

وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف.

وحاصل الآية: أن أهل الباطل مختلفون، وأهل الحق متفقون، فخلق الله أهل الحق للاتفاق، وأهل الباطل للاختلاف.

( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) وتم حكم ربك، ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 120 ) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ( 121 ) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 122 ) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 123 ) .

( وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) معناه: وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل، أي: من أخبارهم وأخبار أممهم نقصها عليك لنثبت به فؤادك، لنـزيدك يقينا ونقوي قلبك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه.

( وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ) قال الحسن وقتادة: في هذه الدنيا.

وقال غيرهما: في هذه السورة. وهذا قول الأكثرين.

خصَّ هذه السورة تشريفا، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور.

( وَمَوْعِظَةٌ ) أي: وجاءتك موعظة، ( وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أمر تهديد ووعيد، ( إِنَّا عَامِلُونَ ) .

( وَانْتَظِرُوا ) ما يحل بنا من رحمة الله، ( إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) ما يحل بكم من نقمة الله.

( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض ) أي: علم ما غاب عن العباد فيهما، ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) في المعاد.

قرأ نافع وحفص: « يرجع » بضم الياء وفتح الجيم: أي: يرد. وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم، أي: يعود الأمر كله إليه حتى لا يكون للخلق أمر.

( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) وثق به، ( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) قرأ أهل المدينة والشام وحفص ويعقوب: « تعملون » بالتاء ها هنا وفي آخر سورة النمل. وقرأ الآخرون بالياء فيهما.

قال كعب: خاتمة التوراة خاتمة سورة هود .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت، فقال صلى الله عليه وسلم: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » .

ويروى: « شيبتني هود وأخواتها » .

 

سورة يوسف

 

( سورة يوسف عليه السلام مكية )

بسم الله الرحمن الرحيم

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 1 ) إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 2 ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( 3 ) .

( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أي: البيِّن حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه. قال قتادة: مبين - والله- بركتُه وهداه ورشدُه، فهذا مِنْ بان أي: ظهر.

وقال الزجاج: مبيّن الحق من الباطل والحلال من الحرام، فهذا من أبان بمعنى أظهر.

( إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ ) يعني: الكتاب، ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي: أنـزلناه بلغتكم، لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه.

( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ) أي: نقرأ عليك ( أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) والقاصُّ هو الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على وجهه.

معناه: نبّين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان.

وقيل: المراد منه: قصة يوسف عليه السلام خاصة، سماها أحسن القصص لِمَا فيها من العِبَر والحِكَم والنُّكَتِ والفوائد التي تصلح للدين والدنيا، من سِيَرِ الملوك والمماليك، والعلماء، ومكر النساء، والصبر على أذى الأعداء، وحسن التجاوز عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد.

قال خالد بن معدان: سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة.

وقال ابن عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون الا استراح إليها.

قوله عز وجل: ( بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) « ما » المصدر، أي: بإيحائنا إليك، ( هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ ) وقد كنت، ( مِنْ قَبْلِهِ ) أي: [ قبل وحينا ] ( لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) لمن الساهين عن هذه القصة لا تعلمها.

قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنـزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا، فأنـزل الله عز وجل: اللَّهُ نَـزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر - 23 ) فقالوا: يا رسول الله لو قصصتَ علينا، فأنـزل الله عز وجل: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) فقالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا، فأنـزل الله عز وجل أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ( الحديد - 16 ) .

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( 4 ) .

قوله عز وجل: ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ ) أي: واذكر إذ قال يوسف لأبيه، ويوسف اسم عبري [ عُرِّبَ ] ، ولذلك لا يجري [ عليه الإعراب ] وقيل هو عربي .

سئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف؟ فقال: الأسف في اللغة: الحزن، والأسيف: العبد، واجتمعا في يوسف عليه السلام فسُمّي به.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل قال: قال عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الصمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنّ الكريمَ ابن الكريمِ ابنِ الكريم ابنِ الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بن إسحاق بن إبراهيم . »

( يَا أَبَتِ ) قرأ أبو جعفر وابن عامر ( يَا أَبَتَ ) بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير: يا أبتاه.

وقرأ الآخرون: ( يَا أَبَتِ ) بكسر التاء لأن أصله: يا أبتْ، والجزم يحرك إلى الكسر.

( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ) أي نجما من نجوم السماء، ونصب الكواكب على التفسير.

( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) ولم يقل رأيتها إليَّ ساجدة، والهاء والميم والياء والنون من كنايات مَنْ يعقل، لأنه لما أخبر عنها بفعل مَنْ يعقل عبر عنها بكناية من يعقل كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ( النمل - 18 ) .

وكان النجوم في التأويل أخواته ، وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم، والشمس أبوه، والقمر أمه. قاله قتادة.

وقال السدي: القمر خالته، لأن أمه راحيل كانت قد ماتت .

وقال ابن جريج: القمر أبوه والشمس أمه؛ لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر.

وكان يوسف عليه السلام ابن اثنتي عشرة سنة حين رأى هذه الرؤيا.

وقيل: رآها ليلة الجمعة ليلة القدر فلما قصها على أبيه.